فقه السيرة النبوية (3)

 

الحلقة الثالثة : حال العرب قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم

أصول العرب .

قسم المؤرخون أصول العرب إلى ثلاثة أقسام بحسب السلالات التي انحدروا منها: 

1- العرب البائدة: وهي قبائل عاد، وثمود، والعمالقة، وطَسْم، وجَديس، وأمَيْم، وجُرهم وحضرموت ومن يتصل بهم, وهذه درست معالمها واضمحلت من الوجود قبل الإسلام وكان لهم ملوك امتد ملكهم إلى الشام ومصر. 

2- العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يَعْرُب بن يشجُب بن قحطان وتسمى بالعرب القحطانية ويعرفون بعرب الجنوب ومنهم ملوك اليمن، ومملكة معين، وسبأ وحمير. 

3- العرب العدنانية: نسبة إلى عدنان الذي ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام وهم المعروفون بالعرب المستعربة، أي الذين دخل عليهم دم ليس عربيًّا ثم تم اندماج بين هذا الدم وبين العرب، وأصبحت اللغة العربية لسان المزيج الجديد وهؤلاء هم عرب الشمال، موطنهم الأصلي مكة، وهم إسماعيل عليه السلام وأبناؤه والجراهمة الذين تعلم منهم إسماعيل عليه السلام العربية، وصاهرهم، ونشأ أولاده عربًا مثلهم، ومن أهم ذرية إسماعيل (عدنان) جد النبي صلى الله عليه وسلم الأعلى.

ومن عدنان كانت قبائل العرب وبطونها فقد جاء بعد عدنان ابنه معد، ثم نزار، ثم جاء بعده ولداه مُضَر وربيعة. 

أما ربيعة بن نزار فقد نزل من انحدر من صلبه شرقاً، فقامت عبد القيس في البحرين، وحنيفة في اليمامة، وبنو بكر بن وائل ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة. 

أما فرع مضر: فقد نزلت سليم بالقرب من المدينة، وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت سائر هوازن شرقي مكة، وسكنت أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة، وسكنت ذُبيان وعَبس من تيماء إلى حوران.

ووُلد الرسول صلى الله عليه وسلم من مضر، وقد أخرج البخاري عن كليب بن وائل قال: حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة قال: «قلت لها: أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر؟ فقالت: فممن كان إلا من مضر؟ من بني النضر بن كنانة». 

وكانت قريش قد انحدرت من كنانة وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وانقسمت قريش إلى قبائل شتى من أشهرها جمح وسهم وعدي ومخزوم وتيم وزهرة وبطون قصي بن كلاب، وهي عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العزى بن قصي، وعبد مناف بن قصي، وكان من عبد مناف أربع فصائل: عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم. وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم. 

قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»( ). 

الحالة الدينية للعرب قبل الإسلام 

ابتليت الأمة العربية بتخلف ديني شديد، ووثنية سخيفة لا مثيل لها، وانحرافات خلقية، واجتماعية، وفوضى سياسية، وتشريعية، ومن ثم قل شأنهم وصاروا يعيشون على هامش التاريخ، ولا يتعدون في أحسن الأحوال أن يكونوا تابعين للدولة الفارسية أو الرومانية، وقد امتلأت قلوبهم بتعظيم تراث الآباء والأجداد واتباع ما كانوا عليه مهما يكن فيه من الزيغ والانحراف والضلال .

وثنية الجاهلية 

كان الشرك هو دين العرب العام والعقيدة السائدة ، كانوا يعتقدون في الله أنه إله أعظم خالق الأكوان ومدبر السماوات والأرض ، بيده ملكوت كل شيء فلئن سئلوا : من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ،{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } ولكن ما كانت حوصلة فكرهم الجاهلي تسع توحيد الأنبياء في خلوصه وصفائه وسموه ، وما كانت أذهانهم البعيدة العهد بالرسالة والنبوة والمفاهيم الدينية تسيغ أن دعاء أحد من البشر يتطرق إلى السموات العلى ويحظي عند الله بالقبول مباشرة بغير واسطة وشفاعة ، قياساً على هذا العالم القاصر وعاداته وأوضاع الملوكية الفاسدة ومجاري الأمور فيها ، فبحثوا لهم عن وسطاء توسلوا بهم إلى الله وأشركوهم في الدعاء ، وقاموا نحوهم ببعض العبادات ورسخت في أذهانهم فكرة الشفاعة حتى تحولت إلى عقيدة قدرة الشفعاء على النفع والضرر . ثم ترقوا في الشرك فاتخذوا من دون الله آلهة ، واعتقدوا أن لهم مماثلة ومشاركة في تدبير الكون ، وقدرة ذاتية على النفع والضرر والخير والشر والإعطاء والمنع ، فإذا كان الأولون يعترفون لله بالألوهية والربوبية الكبرى ، ويكتفون بالشفعاء والأولياء كان الآخرون يشركون آلهتهم مع الله ويعتقدون فيهم قدرة ذاتية على الخير والشر والنفع والضر والإيجاد والإفناء مع معنى غير واضح عن الله كإله أعظم ورب الأرباب.

أصنام العرب في الجاهلية 

ولم يزل هذا الفريق الثاني يقوى أمره ويستفحل مع إمعان القوم في الجاهلية وقرب هذه النزعة الوثنية إلى الحواس والمحسوسات واتفاقه مع ضعف التفكير حتى أصبحت هذه العقيدة السائدة وأصبح الذين يميزون بين الآلهة والوسطاء شواذ في الأمة ، ومن رجال الطبقة المثقفة ، وهكذا انغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها ، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص ، بل كان لكل بيت صنم خصوصي : قال الكلبي : كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه ، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به ، وإذا قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً. واستهترت العرب في عبادة الأصنام ، فمنهم من اتخذ بيتاً ، ومنهم من اتخذ صنماً ، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم ، وأمام غيره ، مما استحسن ، ثم طاف به كطوافه بالبيت وسموها الأنصاب . وكان في جوف الكعبة- البيت الذي بني لعبادة الله وحده- وفي فنائها ثلاث مائة وستون صنماً ، وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة .

وكان لكل قبيلة صنم فكان لهذيل بن مدركة: سواع، ولكلب: ود، ولمذحج: يغوث, ولخيوان: يعوق، ولحمير: نسر، وكانت خزاعة وقريش تعبد إسافًا ونائلة، وكانت مناة على ساحل البحر، تعظمها العرب كافة والأوس والخزرج خاصة، وكانت اللات في ثقيف، وكانت العزى فوق ذات عرق، وكانت أعظم الأصنام عند قريش. 

وإلى جانب هذه الأصنام الرئيسية يوجد عدد لا يحصى كثرة من الأصنام الصغيرة والتي يسهل نقلها في أسفارهم ووضعها في بيوتهم. 

روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطاردي قال: «كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا آخر هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جُثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به»( ). 

وقال الكلبي : كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار ، فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً ، وجعل ثلاث أثافي لقدره ، وإذا ارتحل تركه .

الآلهة عند العرب 

وكان للعرب- شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان- آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب ، فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ، فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ويعبدونهم ويتوسلون بهم عند الله ، واتخذوا كذلك من الجن شركاء لله وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم.

قال الكلبي : كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن 

وقال صاعد : كانت حِمْيَر تعبد الشمس ، وكنانة القمر ، وتميم الدبران ، ولخم وجذام المشتري ، وطيء سهيلاً ، وقيس الشِّعري العبور ، وأسد عطارداً.

اليهودية والنصرانية في بلاد العرب 

وانتشرت اليهودية والنصرانية في بلاد العرب ، ولم تستفد منها العرب كثيراً من المعاني الدينية ، وكانتا نسختين من اليهودية في الشام ، والنصرانية في بلاد الروم والشام قد طرأ عليها من التحريف والزيغ والوهن ما شرحناه من قبل .

الحنفاء

وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام وما يتعلق بها من الأحكام والنحائر وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم، وكان يقول: 

أربًّا واحدًا أم ألفَ رب؟؟

أدين إذا تقسِّمت الأمورُ؟

عزلتُ اللات والعزى جميعًا

كذلك يفعل الجلد الصبورُ

فلا العزى أدين ولا ابنتيها 

ولا صنمي بني عمرو أزورُ

ولا غنمـًا أدين وكان ربا 

لنا في الدهر، إذا حلمي يسيرُ

إلى أن قال:

ولكن أعبد الرحمن ربي 

ليغفر ذنبي الربُّ الغفور

وممن كان يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قُس بن ساعدة الإيادي, فقد كان خطيبًا، حكيمًا، عاقلاً، له نباهة، وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان.

عن ابن عباس قال: «إن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى مكة، قالوا: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه» وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل البعثة. 

ومما كان ينشده من شعره: 

في الذاهبين الأوليـ 

ن من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا 

للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها 

يمضي الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إليّ 

ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محا 

لة حيث صار القوم صائر

الرسالة والإيمان بالبعث 

أما الرسالة فقد تصور العرب للنبي صورة خيالية ، وتمثلوه في ذات قدسية ، لا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا يلد ولا يمشي في الأسواق . وكانت عقولهم الضيقة لا تهضم أن هنالك بعثاً بعد الموت ، وحياة بعد هذه الحياة ، فيها الحساب ، والثواب والعقاب ، قالوا : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} وقالوا : { أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } 

قال صاعد : كان جمهورهم ينكر ذلك "الميعاد" لا يصدق بالمعاد ولا يقول بالجزاء ، ويرى أن العالم لا يخرب ولا يبيد ، وإن كان مخلوقاً مبتدعاً ، وكان فيهم من يقر بالمعاد ، ويعتقد إن نحرت ناقته على قبره يحشر راكباً ، ومن لم يفعل ذلك يحشر ماشياً.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين