كيف نتعامل مع الموروث التربوي؟ (2)

الوظيفة التربوية للموروث الحضاري في حاضر التعليم:

البحث عن الوظيفة التربوية للموروث الحضاري في التعليم هو بحث عن قيمة الدراسة التاريخية في التنشئة والتكوين بالنسبة للشخصية الإنسانية.

ومن هنا نجد أنه من الصعب إبداع حضارة واحدة ذات نسيج واحد بذوات متنافرة لا تجمعها روح منسابة واحدة، وإنه مهما اختلفت الإيقاعات في الحضارة، فيجب أن يكون الإيقاع الأقوى هو الإيقاع الذاتي الذي يمثل الروح العامة للأمة [8].

ويمكن القول: إن التاريخ البشري - طوال حقبه - يتكون عادة من شريحتين: شريحة تميزت وصنعت حضارة نسبت إليها وأخذت بها موقعاً من التاريخ، وشريحة مرت بالتاريخ كما تمر شتى الأمواج الساكنة في الكون، فهي تابعة لأية ذات، وهي مؤهلة لعبور جسر الحياة تحت أي مظلة وبأي لون، وهي مطية للزمان والمكان، يشكلانها كيفما اتفق، وليس الزمان والمكان مطية لها تشكلهما هي وفق ذاتها وبوعيها وإرادتها.

وتحدد الأمة - أية أمة - انتماءها لأية شريحة من الشريحتين منذ البداية، أي في مرحلة التكون والانطلاق. وإذا تركنا الشريحة الثانية حيث تمضي بغير معنى في التاريخ، فهي لا تحتاج إلى وقفة، ومسيرتها شبيهة بكل الكائنات التي تنتمي إلى عالم الغريزة، ذلك أنها توجه خطواتها إلى المسالك التي تحقق بها غرائزها الدنيوية وأهـــدافها المحدودة [9].

وعلى العكس من ذلك نجد الشريحة الأولى، شريحة صانعي الحضارة الذين يتميزون بذات خاصة، والذين تركوا بصماتهم على الزمان والمكان، فهذه الشريحة التي تصنع الحضارة، هي التي انطلقت وفق فقه خاص للحضارة، واشتبكت مع الزمان والمكان في معركة إثبات الذات، فهي تستثمر كل ثانية من الوقت، وهي تسخِّر كل ذرة من الأرض، وهي تصارع الزمان والمكان بسلاحين قويين: سلاح الإسلام، وسلاح العروبة.

ومن المعروف أن قضية البحث عن الذات الحضارية قد استولت على اهتمام شعوب كثيرة إبَّان معاناتها لما عرف (بصدمة الغرب). وإزاء الشعور بخطر إفناء الذات الذي يمثله الآخر الغازي أو المعتدي، تباينت سبل الشعوب في مواجهتها لهذا الخطر دفاعاً عن الذات حسب الرؤية الإيديولوجية لمعنى الذات عند هذا الشعب أو ذاك: ذات دينية أو قبلية أو قومية. ولقد أخطأت الشعوب الإسلامية والعربية في اعتبار السبب واحداً، وهو الغزو الخارجي، مقترناً بأسباب القوة العلمية والتقنية والأطماع الاستعمارية التي تستهدف سحق إرادتها وتاريخ ذاتيتها، ولكن تباينت سبل مواجهة هذا التحدي[10].

لقد غرق الباحثون العرب والمسلمون بعامَّة في مشكلة البحث عن الذات في التراث، واطرد البحث على نحو فردي أو على أيدي جماعات متناثرة، بل متنافرة، واتصل البحث عقوداً دون أن يهتدي الباحثون إلى الذات المفقودة في بطون كتب التراث. ومن أسباب ذلك، الغموض الشديد بشأن الإطار العام الذي يجب أن تكون عليه رؤيتنا للتراث وصورة مجتمع المستقبل... لماذا نبحث عن ذاتنا؟ هل لمجرد أن استهوتنا المشكلة نظريّاً؟ ولماذا نبحث عنها في صفحات كتب بعضها لا يزال بحاجة إلى أن يخضع للبحث والدراسة على هدى منهج علمي؟ وقلَّ من الباحثين من يملك المنهج أو الرؤية المستقبلية التي تحدد معايير النظر [11].

ومن هنا فإن الخطوة الأولى التي لابدَّ منها في بناء الإنسان - الوحدة الأساسية في أمتنا - تصبح هي الوعي بتراثه على وجه العموم، والتربوي على وجه الخصوص، وعياً تحكمه جملة من المبادئ الأساسية التي لابد من إبرازها حتى لا يقع تصورنا للتراث تحت مظلة هذه الصورة التي يشبعها كثيرون نقداً وذمّاً على اعتبار أنها مجرد نظرة ماضوية تريد شدنا إلى الوراء، ومن هذه المبادئ:

- الكف عن النظر إلى التراث على أنه غاية في ذاته، فهو وسيلة ويمكن أن يخضع للنقد والتمحيص أو التغيير، وعدم الخلط بين ثوابــت الأمة الموروثة (القرآن الكريم والسنة النبوية) وبين متغيرات التراث التي هي من صنع البشر، حتى لا تنتفي عن التراث صفة الإبداع الإنساني، وبالتالي لا يمتنع عن النقد الكتب والمؤلفات والكتب المقدسة والمؤلفات الصوفية والفقهية والعقائدية، مثلما لا يضم ضريح الولي وكل صاحب عمامة وبائع عطور[12] !

- لا ينبغي اعتبار التراث مستقلاًّ عن الواقع، فهو جزء منه، فلا يستبدل بالواقع الحالي الواقع التراثي، فيصير الخلط بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون، بحيث لا تصبح القضية التي تحتل المقدمة هي الكيفية التي يطوع بها الحاضر نفسه للتراثي، ومن ثم يظل النظر إلى التراث وكأنه ذات وموضوع، وأنا وآخر، وروحاً ومادة، وبالتالي سوراً مغلقاً لا يمكن ولا يجب النفاذ إليه.

- التراث ليس كلاًّ لا يتجزأ، يؤخذ كُله أو يرفض كله، البدء منه والمنتهي إليه. إذ يترتب على النظر إليه باعتباره كلاًّ لا يتجزأ، محاولة تأكيد أن التراث لا يقبل التفاعل مع تراث آخر. وكذلك تحول جماعات تراثية إلى جماعات مغلقة على نفسها في الفكر والسلوك والممارسات الاجتماعية.

- التراث ليس خارج التاريخ والزمان والمكان، وهو ليس بذاته حقيقة أبدية لا تتطور ولا تتغير، لا فرق فيها بين ماض وحاضر ومستقبل، ومن ثم فلابد من الاعتراف بوجود خصوصيات للمجتمعات والشعوب.

- ضرورة حضور الإنسان، إرادته وعقله وروحه، وحاجاته الأساسية. فالغاية ليست مجرد الدفاع عن التراث وتأكيد حاكميته.

- ضرورة البعد عن التعصب، والحرص على إقامة حوار مع الآخر، حتى لا ننغلق على الذات، ونسهم في التخاصــم والتصارع مع الحاضر ونظامه [13].

وبعد أن أثبتنا هذه المنطلقات يمكن لنا أن نؤكِّد أن مثلنا مع تراث أمتنا كمثل الإنسان مع القوانين الطبيعية التي تحكم هذا الكون وتسيطر فيه، فقبل أن (يعي) الإنسان قوانين ظاهرة ما، لا يستطيع اكتشافها ومن ثم لا يستطيع توجيهها ولا التحكم فيها والسيطرة عليها، ومن هنا فإن تسخير الظواهر الطبيعية وتحويل الظواهر الاجتماعية، والتأثير والتعديل في الظواهر الفكرية هو أمر لاحق (لوعي) الإنسان بقوانينها وفهمه لمكوناتها.

هكذا الأمر بالنسبة لموروثنا العربي الإسلامي كظاهرة فكرية وحضارية متنوعة المناحي، ومتعددة الجنبات. لابد لنا أن (نعي) مكونات هذه الظاهرة، ونفهم تياراتها، ومنشأ هذه التيارات، وكيف تحركت ونمت، أو انتكست وذبلت، وماذا يصلح من كل ذلك كي يكون طاقات إبداعية وخالقة تذكي حركتنا الزاحفة نحو أهدافنا المعاصرة والمستقبلة، وماذا من صفحاته يدرس لمجرد الدرس الأكاديمي التاريخي، وماذا من أجزائه يفحص لمجرد إدراك النقيض.. إلخ [14].

إننا إذا وعينا ما في موروثنا الحضاري والتربوي من قيم إيجابية فأقبلنا عليه وأحييناه، ووعينا ما قد يكون فيه عكس ذلك فأدرنا له ظهورنا واستبعدناه، عندئذ سيبرز التراث العربي الإسلامي: ظاهرة فكرية حضارية، ولكنها متعددة الجنبات، متنوعة القسمات، وفيها ما يكون قيوداً على تقدمنا، وما يمثل طاقات إبداعية وخلاقة تدفع هذا التقدم إلى الأمام، ومن ثم تنتقل هذه القضية من دائرة (العماء والغموض) إلى ساحات الصراع الاجتماعي والفكري الواضح والمحدد، فتعرف جماهير هذه الأمة ومثقفوها الذين ربطوا مصيرهم بقضية تقدمها وتحررها، كيف تجعل هذا التراث العربي الإسلامي كتيبة من كتائب حربها ضد التخلف والجمود، وتياراً سارياً في ضمير هذه الأمة يربطها بأمجد صفحات تاريخها وحضارتها، يذكي فيها إحساس الأصالة والمجد، بقدر ما يدفع خطواتها على الطريق إلى الأمام، كما يعرف أعداء تقدم هذه الأمة أن قوى التقدم قد اقتحمت عليهم الحصن الذي توهموا أنهم وحدهم المتحصنون فيه[15].

ولعلنا بعد هذا يمكن أن نشير باختصار شديد إلى عدد من الوظائف التربوية التي يمكن أن تقوم بها دراسة الموروث التربوي [16]:

- فهم المشكلات التربوية التي واجهت الإنسان في سياق تطوره الاجتماعي.

- بعض العلم بالطرق التي واجه بها هذه المشكلات في عصور مختلفة وفي أماكن مختلفة.

- اتجاه موضوعي نحو كل الأفكار التربوية، والنظم، وطرق التعليم، على أنها وسائل لا غايات في حد ذاتها، فنكون على استعداد لتقديرها، لا على أساس الولاء الأعمى، ولكن على أساس صلاحها لتحقيق الغايات التي من أجلها وضعت.

- تذوق حقيقة أن أي حركة في التطور التاريخي للتعليم لا يمكن أن تفهم فهماً صحيحاً، وتقدر تقديراً دقيقاً من غير الرجوع إلى الدوافع القريبة والبعيدة التي أوجدتها في أول الأمر.

- تذوق حقيقة أن الجماعة التربوية هي في حركة دائمة ولا تستقر أبداً، وأن مفهوم التغير المستمر أساسي لفهم أي كائن اجتماعي بدرجة ما هو أساس لفهم أي كائن بيولوجي.

- تذوق حقيقة أنه ما دام التغير هو أساس الجماعة البشرية، فإن النظام التربوي يجب أن يكيف دائماً ليوجه الحاجات الاجتماعية المتغيرة لعالم اجتماعي متغير.

- اتجاه واع نحو كل الآراء الموجهة جديّاً نحو تحسين النظام التربوي، يرافقه شك ناقد لكل الأدوية التربوية التي تركب وتوصف بدون علم كاف بطبيعة المرض أو تاريخ المريض.

- تذوق حقيقة أن أحوال الحضارة المختلفة ومستويات التعليم المتعددة وأنواعه ودرجاته ومجالاته، تولد طرقاً مختلفة لمواجهة المشكلات التربوية، وتقبل اختلاف الثقافات كأمر من طبيعة الأشياء، لا على أنها شيء غير مرغوب فيه، وقدرة تتجاوز مجرد النظر الموضوعي للثقافات والحضارات التي تختلف عن حضارتنا وثقافتنا إلى المشاركة الواعية في طرق الفكر وطرق العمل في هذه الحضارات والثقافات.

- إحساس بالمسئولية الاجتماعية يتضمن، بالإضافة إلى المشاركة الذكية في عمل الآلية التربوية والآلية الاجتماعية كما هما، إلى التعاون الذكي في إحداث التغيرات اللازم إحداثها في هاتين الآليتين حتى تبقيا متكيفتين أبداً مع الحاجات الاجتماعية المتغيرة.

- إن الموروث التربوي، إذا علم جيداً، يجب أن ينمِّى اتجاهات محددة خاصة تنفع في معالجة المواقف التربوية والاجتماعية من كل نوع، ويجب أن يهيئ فرصة مناسبة لتدريب الباحثين على: أين وكيف يحصلون على المعلومات - كيف يزنون الأدلة ويستبعدون التحيز - كيف يحصلون نتائج منطقية - كيف يختارون ويرتبون ويعرضون الحقائق التربوية كمقدمة لتكوين رأى سليم عن أي موقف تربوي، ماض أو حاضر [17].

لكن مثل هذه الوظائف لا تحدث في التو واللحظة عند الشروع في الوعي بالموروث التربوي، ما لم يستند هذا الوعي إلى أرض صلبة من العمل المنهجي العلمي.

الحلقة الأولى هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين