أصالةُ الفقهِ الإسلاميِّ

كتبَ أحدُ العلماءِ بحثاً في صحيفةٍ يوميةٍ جاء فيه فقرة عن الفقه الإسلامي يقول فيها: (وهناك طريق آخر تسرَّبت منه هذه الفتوى التقليديَّة – يريد الحكم بقتل المرتد عن الإسلام – وأعني به طريق تقاليد الدولة البيزنطيَّة المسيحية التي تأثَّر بها المسلمون وفقهاؤهم في العصر العباسي، وقد كانت هذه التقاليد، وما زالت تقضي بقتل المسيحي إذا هو غيَّر دينَه كما حقَّق ذلك العلامة (آدم متز) ص 56 من كتابه الجليل (الحضارة الإسلاميَّة).

وهذه شِنْشنةٌ نعرفها من أخزم، فالمستشرقون يحاولون جاهدين أن يسلبوا أسلافنا كل فضيلة، وأن يشككوا في تراثنا كله، والمستغربون وأشباههم من أبناء أمتنا يريدون أن يتشبهوا إن لم يكونوا مثلهم، وعند هؤلاء وهؤلاء أنَّ العرب أضيق أفقاً، وأضعف عقولاً من أن يدوِّنوا علماً، أو يقعدوا قواعد، ولو كان لهذا العلم أصوله النازلة من السماء.

فالبلاغة من أرسطو، وشيخ البلاغيين عبد القاهر قد أنفق جهداً صادقاً خصباً في التأليف بين قواعد النحو العربي وبين آراء أرسطو العامَّة في الجملة والأسلوب والفصول، ولم يكن عندما وضع في القرن الخامس كتاب (أسرار البلاغة) المعتبر غرَّة البيان العربي إلا فيلسوفاً يجيد شرح أرسطو والتعليق عليه، فالبيان العربي في جميع أطواره وثيق الصلة بالفلسفة اليونانية أولاً، وبالبيان اليوناني أخيراً، وإذاً لا يكون أرسطو المعلم الأول للمسلمين في الفلسفة وحدها ولكنه إلى جانب ذلك معلمهم الأول في علم البيان.

هكذا يقول شيخ المستغربين، فهو لم يكتفِ بتأثُّر البلاغة العربية في طور من أطوارها بالبيان اليوناني، بل جعلها وثيقة الصلة بهذا البيان في جميع أطوارها، فليس من علماء العرب أحد تكلم في البيان منذ بدأ العرب يتكلمون إلا وهو دارس للفلسفة اليونانية، هكذا... والشيخ عبد القاهر لم يكن له أي فضل إلا أنه بذل جهداً صادقاً في شرح أرسطو، فأسرار البلاغة قبس من فلسفة أرسطو، ودلائل الإعجاز لا يسع من يقرؤه إلا أن يعترف بما أنفق عبد القاهر من جهد صادق في التأليف بين قواعد النحو العربي وبين آراء أرسطو.

وماذا بقي بعد ذلك لإمام البلاغيين؟ بقي له التوفيق الذي يدعو إلى الإعجاب في محاولته هذه.

والنحو العربي كذلك ليس من وضع سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولا أبي الأسود الدؤلي لأنهما فيما أعرف لم يدرسا النحو السرياني، وهذا النحو هو أساس النحو العربي، لأن تقسيم الكلمة في النحوين واحد، والسريان – طبعاً – سابقون، فمنهم أخذ العرب نحوهم... ولا شك!

وقد كنا نعتز بجهود فقهائنا، وأمانتهم، وتحريهم، ونقول إنهم – على الأقل – وحدهم من بين علماء العربية الذين اعتمدوا على دراساتهم العربية المحضة، وعلى فهمهم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحابه رضي الله عنهم، ولكن بعض علمائنا يُنبِّهُنا، ونحن غافلون نقلاً – طبعاً – عن أحد المستشرقين أو عن جماعة منهم، إلى أنَّ هؤلاء الفقهاء تأثَّروا بالفقه الروماني، وبتقاليد الدولة البيزنطيَّة، بل تسرَّبت إليهم بعض الأحكام، وهم لا يشعرون، وما داموا كذلك فلا ثقة بما يقولون، ويجب أن نطرح آراءهم حين نبحث عن الحقيقة (والإسلام الأصيل الحقيقي السمح براء كل البراءة من قتل المرتد مسلماً كان أو غير مسلم، فلنترك الناس أحراراً في آرائهم ومعتقداتهم) كما يقول هذا الكاتب، وفقهاء المسلمين جميعاً راغمون!.

هذا هو المنطق الذي يكتب به قَومٌ من أبناء جلدتنا، يتَسَمَّون بأسمائنا، ويَدينون بمُعتقداتِنا، ويَعيشون على أرضنا.

(كولد زيهير) قال إنَّ الفقه الإسلامي مأخوذ من الفقه الروماني، فيجب المصير إلى قوله، لأنه العلامة الأوحد الذي تفضَّلت به الحياة على الناس، ولا يمكن أن يردَّ قولُه، أو تحوم الشبهة حول صحة تفكيره، وقوة منطقه، أما الباحثون من المسلمين، قدامى ومحدثين فلا ثقة بما يقولون.

لقد أثيرت هذه المسألة قبل ذلك في أوقات مُتباعدة، وقد نُوقشت وتبيَّن فيها وجهُ الحق لمن يريد الحق، ولكن لابدَّ من جديد، والجديد عندنا إن وجدنا من يُريد أن يقتنع.

أول ما ينبغي أن يَعرفه المفتونون بالغرب، عن قصد أو عن غير قصد أنَّ المستشرقين مهما تذرَّعوا، وتظاهروا بحب البحث العلمي، هم أعداء ألداء للإسلام، وللثقافة الإسلامية (ولا يعرف العقل ولا المنطق حدَّاً لما يقوم به المستشرقون من تحريف للتاريخ الإسلامي وتشويه لمبادئ الإسلام، وإعطاء المعلومات الخاطئة عنه وعن أهله، وكذلك يجاهدون بكل الوسائل لينتقصوا من الدور الذي لعبه الإسلام في تاريخ الثقافة الإنسانية. إنَّ المستشرقين جميعاً فيهم قدر مُشترك في هذا الجانب، والتفاوت – إن وجد بينهم – إنَّما هو في الدرجة فقط، فبعضهم أكثر تعصُّباً ضد الإسلام وعداوة له من البعض الآخر، ولكن يصدق عليهم جميعاً أنَّهم أعداؤه) [من محاضرة عنوانها (المبشرون والمستشرقون ص 15 للدكتور محمد البهي رحمه الله تعالى].

وجولد زيهير – بالذات -معروف بعدائه للإسلام، وبخطورة كتاباته عنه، وهو من مُحَرِّري (دائرة المعارف الإسلامية) ودورها في تشويه الإسلام معروف لكل من طالعها.

وأخطر من المستشرقين – في نظري – أولئك المستغربون، الذين يُروِّجون آراءهم بل ويُدافعون عنها، ويُطيلون في امتداحها.

وهل يمكن أن نجد رجلاً يحترمُ دينَه وعقله، وقد قرأ شيئاً عن مَصادر التشريع الإسلامي، وعرف أن القرآن الكريم والحديث النبوي هما المصدران الوحيدان لهذه الشريعة، هل يمكن أن يقول هذا الرجل إنَّ الفقه الإسلامي مأخوذٌ من الفقه الروماني، وعلماؤنا الأتقياء الورعون الذين كان بعضهم يتورَّع أن يفسِّر كتاب الله تعالى برأيه، وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم الأجلاء رضي الله عنهم الذين أخذنا عنهم كثيراً من تفسيرات شريعتنا، وكل أولئك كانوا شديدي الخوف أن يقولوا على الله تعالى ما لم ينزل به وحي، أو يتحدث به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

إنَّ دعوى أنَّ مسألة من المسائل تسرَّبت إليهم من التقاليد المسيحيَّة البيزنطيَّة دعوى جَريئة لا يقول بها إلا من يجهل التشريعَ الإسلامي جملةً وتفصيلا، فالذي يَعرف تاريخ الصحابة الكرام، ويدرس سلوك الأئمة وأخلاقهم يوقن أنَّ هؤلاء لا يُمكن أن يَعتمدوا أحكاماً بعيدة عن الإسلام، ويدخلوها في الفقه على أنَّها من الشريعة، والذي لا سبيلَ إلى الشك فيه أنهم كانوا يَقِفون عند النصوص، فإذا لم يكن نصٌّ اجتهدوا، واستندوا إلى الأصول العامَّة في الدين.

والدارس للفقه ولتاريخ التشريع يعلم أنه بعد عصر الصحابة نشأت مدرستان نما الفقه وترعرع في ظلالهما، مدرسة المدينة المنورة، وعمادها الفقهاء السبعة المشهورون، وإمامهم سعيدُ بن المسيَّب رضي الله عنه، ومدرسة الكوفة وإمامها إبراهيم النَّخَعي، الذي ظهرت صورتُه واضحة في أبي حنيفة رضي الله عنه.

أما المدرسة الأولى فقد أسَّست الفقه الإسلامي، وكانت تستمدُّ فقهها من القرآن الكريم والحديث الشريف، وكان مذهبُهم اتباع السنَّة، ومذهب الصحابة، وقد بعدت هذه المدرسة عن أي مُؤثِّر خارجي لأنها قامت في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هؤلاء إذا لم يجدوا نصاً في كتاب الله سبحانه ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لجأوا إلى القواعد العامَّة للدين من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) وقوله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك).

وأما مدرسة الكوفة، فمع أنها شهرت بمدرسة الرأي كانت تأتمُّ في عملها بجماعة من الصحابة أشهرهم ابن مسعود رضي الله عنه، وقد أدرك إمامهم وهو النخعي جماعةً من الصحابة منهم أبو سعيد الخدري رضي الله عنه والسيدة عائشة رضي الله عنها، وكانت هذه المدرسة كذلك إذا لم تجد نصاً لجأت إلى الرأي، ولكنها عُنيت بالتعليل، على أنَّه إذا ثبت عندها النص لم يتركوا العمل به ولو خالف الأصول العامَّة، وأبو حنيفة الأستاذ الثاني في هذه المدرسة كان من العلم والفقه والورع على ما كان، وقد شهد له الإمام الشافعي شهادة جليلة، حيث قال: (من أراد أن يفتنَّ في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة) وكان أبو حنيفة يأخذ بخبر الآحاد إذا لم يخالف السنَّة المشهورة ولم يسبق طعنُ أحد من السلف فيه، ولم يخالف العملَ المتوارث بين الصحابة والتابعين.

في هذه الفترة تحدَّدت كل أصول التشريع، وكان عمل الفقهاء فيما بعد التفريع والتعليل، فهل يمكن أن يُقال إنَّ الفقهاء الإسلاميين أخذوا فقههم من أي فقه آخر؟!.

على أنَّ الأوزاعي الذي يجعلونه مظهراً لتأثُّر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني لأنه عاش في الشام، وكان أهل الشام يعملون بمذهبه، هذا الإمام كان من رجال الحديث الذين يكرهون القياس، على أن مذهبه قد اضمحلَّ وذهب (وذهب معه كل أمل في البحث عن أثر الحقوق الرومانية فيه إن صح أن لها فيه تأثيراً) [الحقوق الرومانية وتاريخها ص 53 لمعروف الدواليبي].

وإذا كان لابدَّ لنا من الاستعانة بما كتبه العلماء الذين درسوا الفقه الروماني بجانب دراستهم للفقه الإسلامي، فإننا نثبت هنا كلمتين لعالمين كبيرين قال معروف الدواليبي: (إننا إذا نظرنا إلى هذه الدقائق التاريخية وجدنا عندئذ دعوى المستشرقين عبارة عن فرضية مجرَّدة من كل دليل، ومُتنافية مع الوقائع التاريخيَّة، وهذا ما يجرِّدها بعد اليوم من كل قيمة، ولم يجد الفقه الإسلامي في سورية موطناً ملائماً للتوسع والرقي، والاقتباس من الحقوق الرومانية) يقول ذلك لأنَّ سورية – كما يرى – لم يكن لها أي تأثير في تطور الحقوق الإسلامية، ولم يعرف عنها أنها نشأ فيها مذهب من مذاهب الفقهاء الأحرار، لأنَّ سورية كانت تحت سيطرة مذهب المحدثين المقلدين للفقه الإسلامي، على ما هو عليه في الحجاز، وكما جاءت به نصوص الكتاب والسنة [الحقوق الرومانية من صفحات 50-52]، هذا والكاتب سوري فقوله في هذه المسألة فصل.

وقال العالمُ الجليل الذي أطال النظرَ والدرس في الفقه الإسلامي، وكان حجَّة في القوانين الغربيَّة المرحوم الأستاذ عبد الرزاق السنهوري: (لن يكون همَّنا في هذا البحث إخفاء ما بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي من فروق في الصنعة والأسلوب والتصوير، بل على النقيض من ذلك سنعني بإبراز هذه الفروق حتى يحتفظ الفقه الإسلامي بطابعه الخاص، ولن نحاول أن نصطنع التقريب ما بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي على أسس موهومة أو خاطئة، فإنَّ الفقه الإسلامي نظام قانوني عظيم له صنعة يستقلُّ بها، ويتميز عن سائر النظم القانونية في صياغته، ونقضي بالدقة والأمانة العلمية علينا أن نحتفظ لهذا الفقه الجليل بمقوِّماته وطابعه، ونحن في هذا أشد حرصاً من بعض الفقهاء المحدثين فيما يؤنس فيهم من مَيل إلى تقريبِ الفقه الإسلامي من الفقه الغربي، ولا يَعْنينا أن يكون الفقه الإسلامي قريباً من الفقه الغربي، فإنَّ هذا لا يُكسب الفقه الإسلامي قوَّة، بل لعله يبتعد به عن جانب الجدة والابتداع، وهو جانب للفقه الإسلامي منه حظ عظيم) [مصادر الحق في الفقه الإسلامي ص 2-3].

أعتقد أنَّه بعد هذا نستطيع أن نؤكِّد أنَّ الفقه الإسلامي فقه أصيل، وأن علماءه أدَّوا الأمانة العلميَّة على أتمِّ وجوهها، ولم يكونوا من البلاهة والغفلة بحيث يتسرَّب إلى فقههم حكم ليس له مُستند من كتاب أو سنَّة أو إجماعٍ أو قياس، وأنَّ الذين يُردِّدون هذه الأباطيل إنما يخدمون المبشرين والمستعمرين من حيث يَشْعرون أو لا يشعرون.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر)، شوال 1381 – العدد 213

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين