كيف نتعامل مع الموروث التربوي (1)

هذا مبحث مفيد للعالم التربوي الكبير الدكتور سعيد إسماعيل علي، نشر في مجلة المسلم المعاصر، مجلة المسلم المعاصر، في العد 104 من شهور المحرم وصفر وربيع الأول في عام 1423، وقد قام الأخ طارق قباوة بإعادة تنضيده، وتكرم أستاذنا العالم الداعية المربي محمد عادل فارس – جزاه الله خيرا – بقراءته وتصحيحه وتقسيمه إلى حلقات. ويسرنا أن نقدمه للمعتنين بالبحوث التربوية الرصينة. 

المشرف العلمي على الموقع 

مجد مكي

مقدمة:

على الرغم من التحفظات العديدة على نظريات التحليل النفسي في تفسير السلوك، فإنها رسَخت حقيقة من العسير دحضها. ألا وهي أن معطيات الشخصية الإنسانية الحاضرة لا يمكن فهمها حق الفهم إلا بعد القيام بعملية فك لمعطياتها في سنواتها السابقة، منذ أيام الطفولة الأولى. وإعادة تركيبها مرة أخرى.

وعلى الرغم من أن البنية المجتمعية العامة ليست بالفعل مجرد حاصل عملية جمع حسابي بين أفراد المجتمع، وبالتالي فإن ما يصدق على الإنسان فرداً قد لا يصدق عليه جماعة وأمة، فإننا بالنسبة لهذه الحقيقة التي أشرنا إليها نجد أنها مثلما تصدق على الفرد تصدق كذلك على الجماعة، بمعنى أنه كلما تمكن السباح من الغوص محللاً وباحثاً في ماضيها استطاع فهم وتفسير ما تواجهه في الحاضر من مشكلات، وما تكون عليه من خصائص وسمات، وما تحفل به من توجهات.

وإذا كان هذا يصدق على الجماعة بكليتها، فإنه يصدق كذلك على منظوماتها الفرعية، والمنظومة المعني بها هنا هي منظومة الفكر التربوي، بحيث تصبح دراسة تياراته وخصائصه ومشكلاته وقضاياه المعاصرة، وتوجهاته المستقبلية دراسة علمية بدون التوقف بعض الشيء أمام ما كانت عليه في قرون سابقة في جوانبها المختلفة، عملاً يجانبه البصر السليم.

وهكذا تتأكد لنا تلك الحقيقة التي تقول: إ، بعيدن موروث كل أمة ليس أمراً شغل فترة من حياتها مضت ولم يعد له وجود، بل هو داخل في عناصر تكوين ذاتها الحضارية، ويصبح من الضروري التبصر بكيفية التعامل مع هذا الموروث بحيث يخضع لعمليات فحص وتقويم ونقد وانتقاء، فلا يتحول إلى قوة جذب إلى الوراء، وإنما يصبح معيناً على تفسير الحاضر ومساهماً قويّاً في الدفع إلى المستقبل.

ومن هنا فإن أهداف دراسة هذا الموضوع تتلخص فيما يلي:

- التأصيل للفكر التربوي الإسلامي المعاصر في جوانبه المتسمة بالاستمرارية.

- الإسهام في تعزيز وتحديد الهوية الفكرية للتربية الإسلامية.

- الفحص النقدي لعدد من المضامين الفكرية للموروث التربوي.

ما الموروث؟

يجب أن ننبه بداية إلى أننا نقصد من كلمة (الموروث) نفس المقصود عند استخدام كلمة (تراث)، ولفظ (التراث) في اللغــة العربيـة من مادة (و. ر.ث) وتجعله المعاجم القديمة مرادفاً لـ (الإرث) و(الورث) و(الميراث) وهي مصادر تدل، عندما تطلق اسماً، على ما يرثه الإنسان من والديه من مال أو حسب. وقد فرق بعض اللغويين القدامى بين (الورث) و(الميراث) على أساس أنهما خاصان بالمال وبين (الإرث) على أساس أنه خاص بالحسب. ولعل لفظ (تراث) هو أقل هذه المصادر استعمالاً وتداولاً عند العرب الذين جمعت بينهم اللغة [1].

وبالنسبة للقرآن الكريم، فإن الآية الوحيدة التي وردت فيها كلمة (التراث)، هي قوله سبحانه وتعالى: [كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً (19) وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبّاً جَمّاً (20)]. {الفجر}. أما كلمة (ميراث) فقد وردت في قوله تعالى: [وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] {الحديد:10}، واستقراء العديد من الكتابات الفقهية في قرون الحضارة الإسلامية الأولى، تبين خلوها من كلمة (تراث)، والتعامل مع كلمة (ميراث) على أساس أنه ينصرف إلى ما يتركه الميت من مال. أما الكتابات الأخرى في مجالات الأدب وعلم الكلام والفلسفة فهي أيضاً تخلو من كلمة (التراث)، حتى إذا أشار الكتاب إلى ما انتقل إليهم من إرث علمي يوناني، أطلقوا عليها اسم (علوم الأوائل).

ويلاحظ (الجابري) بحق أنه لا كلمة (تراث) ولا كلمة (ميراث)، ولا أيّاً من مادة (و. ر. ث) قد استعمل قديماً في معنى الموروث الثقافي والفكري، وهو المعنى الذي يعطى لكلمة (تراث) في خطابنا المعاصر، فالموضوع الذي تحيل إليه هذه المادة ومشتقاتها في الخطاب العربي القديم كان دائماً: المال، وبدرجة أقل: الحسب. أما شئون الفكر والثقافة فقد كانت غائبة تماماً عن الحقل الدلالي لكلمة (تراث) ومترادفاتها[2].

وعلى هذا يمكن القول بأن الموروث أو التراث في مفهومه البسيط هو ما ورثناه عن السلف من تراكمات ثقافية أو حضارية، ويستوي في ذلك التراكمات التي ابتعدت عن الحياة، والتراكمات التي لا تزال حية وقادرة على أن تدفعنا نحو هذا الاتجاه أو ذاك عند ممارستنا للحياة. ومن ثَمَّ فإن التراث يقبل في سهولة ويسر أن يكون موضع الدراسة من علماء الاجتماع والتربية. بهدف الكشف عما يمكن أن يشهد عليه من علاقة عضوية بين الفكر والواقع المعيش [3].

ومنذ قرون، استطاع عدد من علماء الأمة العربية الإسلامية أن يقوم بمثل هذه الدراسة بصورة تمكننا من البصر بنتائج أصبحت تمثل بالفعل عدداً من الأسس الهامة اللازمة لدراسة العلاقة بين الفكر والواقع في عصرنا الراهن، ولعل أبرز ما يمكن سوقه مثلاً لذلك، دراسة ابن خلدون للتراث التاريخي في مقدمته الشهيرة، حيث خرج بمجموعة من القواعد والمبادئ جعلته مؤسساً لعلم الاجتماع.

وبالمثل نجد جهوداً لعدد من علماء التفسير في توقفهم أمام أسباب النزول، مما يشير إلينا أن آيات القرآن الكريم نزلت لتواجه مواقف عملية، ومشكلات واقعية [4].

وإذا كان لفظ (التراث) لم يرد كثيراً على ألسنة وأقلام الكتاب من السلف، فلابدَّ أن نلاحظ أنه قليلاً ما يرد كذلك على ألسنة وأقلام المتحمسين المعاصرين للتراث؛ ذلك لأن هؤلاء وهؤلاء إنما يقفون على أرض التراث، فلا تتخلق أمامهم مشكلة من حيث ماذا يأخذون منه وماذا يتركون، ويتركز جهدهم في الذود عنه أو إصلاح بعض شأنه، وهم في عدم استخدام لفظ التراث يدركون وجوه الانقطاع بين ما يقفون عنده وما وفد وشاع من أصول وكليات غريبة عنه، وهم يؤثرون الاسم الدال على الهوية وما ينتمون إليه وهو (الإسلام)، يواجهون به تلك المحاولات الضارية لاجتثاثهم من أرضهم وجذورهم الحضارية[5].

والأمر على العكس بالنسبة لمن يقفون على أرض مغايرة فيتشيعون للوافد، وينظرون إلى التراث على أنه حقبة من حقب التاريخ ولت، وبالتالي فحتى يمكن الأخذ بأسباب النهوض الحضاري، فلابدَّ من الانخلاع من هذا الموروث الذي يُشكل قيوداً وأغلالاً تشد الأمة إلى الوراء.

والحق، فإن هذا المجمل الذي نسميه (تراثاً) لا ينبغي أن نراه أمراً خارجاً عن ذاتنا، وليس أمرنا معه في كلياته وأصوله ومجمله أمر اختيار، دون إغفال حقنا في الاجتهاد في فروعه واختيار البدائل من داخله وبمادته، وإدخال ما يتلاءم ولا يتنافر مع أصوله مما هو نافع، بمراعاة ظروف الزمان والمكان، وإن أمرنا مع كلياته وأصوله أمر هوية وانتماء، لا ترد عليه وقفة المختار، ففي الاختيار وجه تحرر، وفي التحرر وجه تنافر مع الانتماء، وعلى سبيل المثال، فإننا عرب، وعروبتنا مضروبة علينا على وجه اللزوم، ومن هنا ترد قوتها كمورد للخضوع والامتثال، وكمشرع للنظر ومعيار للاحتكام. فنحن لا نختار بينها وبين غيرها حسبما ينفعنا، وإلا فمن نكون؟! إنما يرد الاختيار بمراعاة ما يصلح لها وما تصلح به. وهو اختيار يرد في مجال الفروع [6].

لكن هناك من يوجهون سهام نقد إلى معنى أكثر شيوعاً للتراث، بعيد عن المعنى الذي نتناوله في الدراسة الحالية، كما أشرنا في الفقرة السابقة، وكما سيتضح أكثر في أجزاء تالية. هذا المعنى من موضع النقد يطمس التعاقب الزمنى والتمايز الاجتماعي ويحشد كل الإنجازات على مستوى واحد دون تمييز بين فاعل وآخر أو بين جزء وآخر. وفي ضوء هذا التصور يطرح ناقدو هذا التصور بعض التساؤلات مثل[7]: لماذا نحدد بداية التراث بالرسالة المحمدية، ولم لا نضع ما قبلها في الحسبان؟ ولماذا نعادى الحضارات الأخرى في المنطقة نفسها التي انتشر فيها الإسلام، أو على الأقل نتغافلها كالحضارة الفرعونية مثلاً؟ لم نعتبر الأممية الإسلامية هي الأفضل، ونتجاوز، وأحياناً نرفض، أنماطاً وركائز أخرى من الأممية؟ لم نستبدل كثيراً من مفهومات العلم الاجتماعي، كالمجتمع والطبقة، ونُحِلَ محلها: الأمة والخليفة؟

والإجابة عن مثل هذه التساؤلات إنما يحددها المنطلق العقائدي الذي ينطلق منه الباحث، فما دام هذا المنطلق هو الإسلام والعروبة تتضح الصورة. علما بأن من القواعد التي أقرَّها فريق من علماء الإسلام أنَّ شرع مَنْ قبلنا شرع لنا ما لم يرد نص بتحريمه، وبالتالي فلا مفارقة لحضارة ولا لفكر إلا بقدر ما يكون بينها وبين العقيدة من تنافر وتضاد. ومن المعروف كذلك في السنة النبوية التأكيد على أن الحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق بها، لا يبالي من أي وعاء خرجت!

وإذا كان التراث هو ما آل إلى مجتمع راهن، عن الأجيال الغابرة له من قيم ونظم وأفكار، ومن عادات وأخلاق وآداب، يصبح معنى الموروث التربوي هو ما آل إلى المجتمع العربي الراهن من قيم ونظم وأفكار تربوية، وأخلاق وآداب.

وهنا لابدَّ لنا من التفرقة بين فئتين من مصادر الموروث. الفئة الأولى تلك التي مصدرها وحي إلهي، كما نراها في القرآن الكريم والسنة النبوية، والثانية تلك الجهود الفكرية والعملية التي تمت على أيدي المسلمين والعرب في المجال التربوي. ومجالنا في الدراسة الحالية معنيٌّ بالدرجة الأولى بالفئة الثانية، وإن كنا يمكن أن نستند أحياناً إلى نصوص قرآنية ونبوية لتعضيد بعض ما سوف نسوقه من مضامين.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين