الحِكمة هي الحَكَم ، في رعاية المصائر والمصالح !

 

* مغرٍ وممتع وسهل ، الحديث عن العنف واللاعنف ! ومتعته لايحظى بها ، عادةً ، إلاّ أصناف من البشر، لهم خصوصيات معيّنة ! منهم ، على سبيل المثال :

1) أصحاب الملكات العقلية المميّزة ، النزّاعة إلى التأمّل والتفلسف ، وحلّ المشكلات الإنسانية المعقّدة ، بطرائق نظرية فلسفية ، عبر العقول المتمرّسة بفنون التفكير الخصبة المعقّدة ، والأقلام المتمرّسة بفنون الكتابة العميقة والخصبة ، والمحلّقة في آفاق سامية ، غير ملتصقة بطين الأرض ، ولا معجونة بعجينها !

2) صنّاع القرارات السياسية الصالحون ، المخلصون لشعوبهم وأوطانهم ، الحريصون على دماء البشر عامّة ، ودماء مواطنيهم خاصّة ، ويميلون إلى أن يحقّقوا أهداف أوطانهم وشعوبهم ، داخلياً وخارجياً، بالسلم والهدوء ، وبلاعنف ، ولا دماء ، وكفى الله المؤمنين القتال ! فإذا تساوت لدى هؤلاء ، البدائل المطروحة للعمل السياسي المجدي ، مالوا ، تلقائياً ، إلى الحلول غير العنيفة ، بل فرحوا بها ! وهذا هو الأمر الطبيعي ، لدى كل إنسان طبيعي ! إلاّ أن هؤلاء يؤثرون الحلول السلمية ، حتى لوكانت كلفتها أكثر قليلاً ، وفائدتها أقلّ قليلاً ! أمّا إذا كانت الكلفة أكبر بكثير، من كلفة الحلول العنيفة ، فلن يجدوا أمامهم بديلاً عن العنف ، على مذهب الشاعر، الذي قال :

إذا لم يكنْ إلاّ الأسنّة مركباً فلا رأيَ للمضطرّ إلاّ ركوبـُها

3) ضعاف الإرادات والنفوس ، الذين تنخلع قلوبهم من ذكر القتل والقتال ، وترتعد فرائصهم فرقاً ، حين تذكَر حرب قد يكون لهم إسهام فيها ، أو لها تأثير عليهم وعلى حياتهم ! ويمكن وصف هؤلاء ، بأنهم أصحاب الجبن الشديد ، أوالخالع ! فهؤلاء يجدون في حكاية اللاعنف ، والتسلّي بها ، متعة رائعة ..! لاسيّما حين تكون ثمّة أمور جسام ، تحتاج إلى حلول صعبة ، بعضها قد يكون القتال !

*) بَيدَ أن الحياة أشدّ تعقيداً ، من أن تختـزَل ببندين اثنين ، منفصلَين متضادّين ، هما : العنف واللاعنف ! سواء أكان هذا التعقيد ناجماً ، عن تركيبة الإنسان الفرد نفسها ، أم كان ناجماً ،عن تركيبة المجتمع الإنساني، في المكان الواحد ، أم كان ناجماً، عن طبيعة العلاقات ، بين الدول والشعوب ، والملل والأعراق !

ـ فالإنسان نفسه مركّب من أخلاط عجيبة ، أمشاج ، فيها الجانب الجسدي ، بكل مايحويه من عناصر، والجانب العقلي ، بكل مايتضمّنه من ملكات ، والجانب النفسي ، بكل مايشتمل عليه من مشاعر وأهواء ، وإحساسات وانفعالات ، ونزعات خيّرة وشرّيرة !

ـ والمجتمع خليط من العناصر البشرية ، المختلفة في كل مالديها من مشاعر وأهواء ، وإحساسات وانفعالات ، ونزعات خيّرة وشرّيرة ! واحتكاكُ عناصر المجتمع ، فيما بينهم ، يولّد أنواعاً من العلاقات السلبية والإيجابية ، الباردة والفاترة والحارّة ! وينتج عنها أنواع من المواقف والسلوكات ، العقلانية الهادئة ، والانفعالية العنيفة !

ـ والعلاقات بين الدول والشعوب ، والملل والأعراق .. التي تضمّ مجتمعات متنوّعة ، ومصالح مختلفة ، متضادّة في أحيان كثيرة ، وقوى متباينة ، ونزعات مسالمة خيّرة ، وعدوانية صِدامية عنفية شرّيرة ! هذه العلاقات شديدة التعقيد ، وتحتاج إلى قدر كبير، من التأمل الواعي الحكيم ، للتعامل الإيجابي الصحيح معها !

*) فكيف يمكن فصل العنف عن اللاعنف ، بين هذه الخلائط كلها ، بدءاً بأبسطها ، وهو النَزعات الفردية لدى الإنسان الواحد ، وانتهاء بأعقدها ، وهو الناجم عن العلاقات بين الدول والشعوب ، ومروراً بالعلاقات ، داخل المجتمع الواحد ، سواء أكانت بين الأفراد العاديّين ، أم بين الحكّام والمحكومين ، في ظلال أنظمة الحكم المختلفة ،الديموقراطية منها، القائمة على التداول السلمي للسلطة ، والاستبدادية القائمة على الاستئثار بالسلطة ، وحكم البشر بالحديد والنار!

*) ولمّا كان الأمر على درجة كبيرة من التعقيد ، وجدنا أن لامندوحة لدينا ، من العودة إلى أهل الخبرة ، وهم المتخصّصون بالمسائل اللاعنفية ، الذين حشَدوا الكثير من جهودهم وأوقاتهم ، لمحو نزعة العنف ، من عقول البشر وقلوبهم ، وبالتالي من مواقفهم وسلوكاتهم وتصرّفاتهم ، وعلاقاتهم بالناس جميعاً ، الأصدقاء منهم والأعداء ، والمحايدين ، والمسالمين والمعتدين ، والناصحين والمهدّدين ..! وبناء عليه ، فإنا نطرح الأسئلة التالية على هؤلاء الفضلاء المختصّين ، لعلّها تجد لديهم إجابات شافية ، تقنعنا بإمكانية عيش البشر بلاعنف ، على سطح كوكب الأرض ، المبتلى بأنواع شتّى من شياطين الجنّ ، وأصناف شتّى من شياطين الإنس ! وكلّ من هؤلاء وهؤلاء ، يوحي بعضهم إلى بعض زخرفَ القول غرورا !

فنسأل :

1- ماذا يفعل الإنسان العاقل الرشيد ، مع لصّ جاء يسرق بيته ، إذا نَصح هذا اللصّ بالكفّ عن سرقة البيت ، ومارس معه اللاعنف ، فلم يرتدع اللصّ ، وأصرّعلى سرقة البيت ، بل هدّد أهله بالقتل ، بما معه من سلاح .. وإذا كان أهل البيت قادرين على قتله ، أو ضربه بطريقة تشلّ قدرته عن الفعل ، وتمنعه من الإجرام .. هل العنف جائز هنا أم ممنوع !؟

2- كيف يتعامل الرجل الكريم ، مع عصابة من المجرمين، حاولت الاعتداء عليه، واختطاف زوجته التي تسير معه في الشارع .. إذا جرّب معهم اللاعنف ، فلم يجده نفعاً !؟

3- كيف كان على الشعوب المستعمَرة أن تفعل ، في مواجهة الدول التي تحتلّ بلادها ، كالجزائر وسورية ، مع دولة فرنسا مثلاً .. وكالشعب الفيتنامي تجاه العدوان الأمريكي .. ومثل مايجري ، اليوم ، من عمليات احتلال للدول الضعيفة ، في آسيا وإفريقيا ؛ في أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال .. وغيرها !؟

4- كيف كان على الفرنسيين والإنجليز، والأمريكان والروس ، وغيرهم .. أن يقابلوا عدوان هتلر عليهم ، بعد أن نصحوه فلم ينتصح !؟

5- ثم :

هل تعدّ الأمور التالية من العنف ، أم من اللاعنف ؟ :

ـ التهديد.. بسائر أنواعه وأشكاله..

ـ الكلمات النابية المستفزّة ، من أيّة جهة صدرت ..

ـ الطعن اللساني ، أو الكتابي ، بالكرامات والعقائد ..

ـ النظرة الشزراء العدائية ..

ـ ضرب المعلم التلميذَ تأديباً ..

ـ ضرب الأب ابنه تأديباً ..

ـ الكلام ، أو السلوك ، غير العنيف ، الذي يثير لدى الآخرين نزعة العنف ، بردّة الفعل ..

6- ويبقى السؤال المطروح على المفكّرين واالمنظّرين ، الذين يقدّمون الأفكار والنظريات ، للناس عامّة ، ولصنّاع القرارات خاصّة ، هو :

أيّ الأمرين أجدى لكم ، ولصنّاع القرارات ، وللبشر عامّة :

أن تنصحوا الناس باللاعنف ، وترتبكوا في تحديد أنواعه وأشكاله وأساليبه ، وفي تحديد ماهو خطأ منه وماهو صواب .. ثم في تكبيل ماتبيحه من العنف الشرائع ، وتمليه المصالح والسياسات .. تكبيلِه بما تبتكره ، من اللاعنف ، النظريات والفلسفات .. متجاهلةً السنن البشرية ، والنزعات الإنسانية ، وما يقيّدها ، من أنواع الشرعيّات ، بين : شرعيات دينية ، وأخرى وطنية ، وأخرى قانونية دولية ؛ من شرعة حقوق الإنسان العالمية ..!

أن تنصحوا الناس بهذا كله ، أم تنصحوهم بالحكمة ، في كل الأحوال ، في حالة العنف وحالة اللاعنف ، وفي السلم والحرب ، وفي الوعظ والإرشاد ، وفي التنبيه واللوم والتأنيب والتوبيخ ..!؟ متّخذين لكل حالة ، اللبوسَ الذي يناسبها ، في سياقاتها وظروفها .. ناظرين إلى قول القائل :

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرّ، كوضع السيف في موضع الندى

وسبحان القائل : ومَن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتيَ خيراً كثيراً .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين