أكاذيب حول الإمام البخاري وصحيحه (2)

للأسف صارت هناك موضة دارجة لدى بعض المثقفين من أبناء جلدتنا ولدى بعض المتعالمين الذين لم يدرسوا العلوم الشرعية ابتداء من علم الحديث ولا اللغة العربية دراسة متخصصة : فصاروا يرددون كلاماً يقوله أعداء الأمة من المستشرقين الحاقدين ، وأصبحوا أداة لتقويض السنة النبوية والتشكيك فيها وفي أعظم المحدثين الذين بذلوا جهودا مضنية للحفاظ على الأحاديث والتدقيق فيها .

قرأت مقالة رائعة للأستاذ معتز الخطيب في رده على مقطع فيديو أنتجه موقع "أصوات مغاربية" 

وصاحب الفيديو يموله الكونغرس الأمريكي ويتبع لشبكة الشرق الأوسط للإرسال التي تدير قناة الحرة وراديو سوا.

وقد انتشر في بعض القنوات ، ونشرته كذلك قناة الحرة الأمريكية : وما أدراك ما هذه القناة ) .

أرجو قراءة هذه المقالة فهي وإن كانت طويلة ولكنها تفنّد الكثير من الادعاءات الباطلة التي ينشرها البعض حول الإمام البخاري وصحيحه .

وهذه هي تتمة المقالة :

#المسألة الثالثة :

أما الأسماء المذكورة في الفيديو وهي ثلاثةٌ (أبو حاتم الرازي وابنه عبد الرحمن الرازي والذهلي) فهي ترجع إلى مسألة محددة ومصدر واحد فقط كما يوضح عبد الرحمن الرازي نفسه بقوله: "سمع من البخاري أبي [أبو حاتم] وأبو زُرعة ثم تَرَكا حديثَه عندما كَتَب إليهما محمد بن يحيى [الذهلي] النيسابوري أنه أَظهر عندهم أن لَفظَهُ بالقرآن مخلوقٌ"، وقد تعجب العلماء بعد ذلك من هذا الموقف كما فعل الإمام تاج الدين السبكي وغيره، والمسألة ليست شخصَ البخاري ولا صحيحَه وإنما هي مسألة القول بخلق القرآن التي شقت صفوف المحدثين في ذلك الزمان، وأن مصدر التهمة هو الذّهلي نفسه، ولذلك دأب كل من كتب عن البخاري قديمًا وحديثًا على مناقشة هذا الموقف من الذهلي، وهذا شائع في كتب التراجم.

وقد كان الذهليّ نفسه يحث الناس على حضور مجلس البخاري ثم ساءت العلاقة بينهما ووشى الذهلي بالبخاري إلى خالد بن أحمد (أمير بخارى) قائلاً: "إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنَّة"، يقصد القولَ بخلق القرآن، رغم أن البخاري لم يكن يقول بذلك، قال الإمام السبكي: "فافهم ذلك، ودعْ خرافات المؤرخين ... ولا يرتاب المنصف في أن محمد بن يحيى الذهلي لَحِقته آفة الحسد التي لم يَسلم منها إلا أهل العصمة"، وقد تتلمذ للبخاري كلٌّ من أبي حاتم وابنه عبد الرحمن قبل أن يستجيبا لطلب الذهلي، واعتمد أبو زرعة الرازي في جَرْحه لبعض الرواة على كلام البخاري نفسه فيهم ونقَل جرحَه لهم.

النقطة الرابعة في الفيديو هي قوله: "هناك علماء آخرون طعنوا في صحيح البخاري، كالدارقطني، والغساني الجَيَّاني والحافظ زين الدين وغيرهم"!

#المسألة الرابعة :

يخلط الفيديو بين شخص البخاري وبين صحيحه، فالرازيان: الأب والابن، والذهلي لم يتكلموا عن صحيح البخاري أصلاً وإنما عن رأيه في مسألة واحدة لا علاقة لها بالحديث، أما الأسماء الثلاثة المذكورة هنا فهي تلبيسٌ من معدّي الفيديو فلا نعرف من هذا "الحافظ زين الدين"، والدارقطني (ت385هـ) والغساني (ت498هـ) لم يَطعنا في صحيح البخاري بل كانت لهما بعض الانتقادات من حيث الصنعة الحديثية، وأضيفُ إليهم أبا مسعود الدمشقي الحافظ (ت401هـ). فالدارقطني نقَد مئتي حديث فقط (من آلاف!) استدرك فيها على البخاري ومسلم أحاديث رأى أنهما أَخَلَّا بشرطهما فيها وأنها نزلت عن دَرَجة ما التزماه في كتاب سماه (الإلزامات والتتبع)، أما أبو مسعود الدمشقي فقد كتب استدراكًا أيضًا، وكتب الغساني كتاب "تقييد المهمل" في نقد (بعض) رواة البخاري، وقد أجابَ الإمام النووي وغيره عن نقد الدارقطني بأن طعن الدارقطني فاسدٌ ومبني على قواعدَ (لبعض) المحدثين هي ضعيفةٌ جدًّا ومخالِفةٌ لِمَا عليه الجمهور من أهل الفقه والأصول ولقواعد الأدلة قائلاً: "فلا تغترَّ بذلك".

وجملةَ الانتقادات التي وُجهت إلى صحيح البخاري هي انتقاداتٌ تِقنيةٌ لا تتناول ما يسعى إليه الناقدون اليوم من رد أحاديث البخاري أو الطعن في صحيحه، وهي ترجع في الجملة إلى الاحتلاف في بعض قواعد النقد بين المحدثين أنفسهم، فبعضهم يُشدد فيها، وبعض يتخفف في كونه شرطًا للحديث الصحيح أو لا، وهي مسائل اجتهادية لا صلة لها بالطعن أو التكذيب.

أما كون صحيح البخاري أصحَّ كتابٍ بعد القرآن (فيما يخص نصوص الشرع) فهو محل اتفاق بين عامة العلماء عبر القرون بعد أن أصبح البخاري محل قَبول منهم على كثرة دراسته والكتابة عنه أو عن جانب منه، وقد أقر بهذا أئمة كالحافظ النسائي وحكى الاتفاقَ عليه أئمة كابن الصلاح والنووي والطوفي وآخرين. وقد رَوَى عن البخاري عددٌ كبير من تلامذته كمسلم وأبي زُرعة الرازي، والترمذي وابن خزيمة وخلق كثير. قال ابن خلدون: "البخاري إمام المحدثين في عصره، فخرّج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، ... أما البخاري - وهو أعلاها رتبة - فاستصعبَ الناسُ شرحَه، ... وقد سمعتُ كثيرًا من شيوخنا - رحمهم الله - يقولون: شرح كتاب البخاري دَيْن على الأمة"، أي قبل مجيء الحافظ ابن حجر الذي شرحه شرحًا مستفيضًا سماه "فتح الباري".

وقد عدَّ حاجي خليفة (82) شرحًا للبخاري، وقال جمال الدين القاسمي: "لم يبقَ فاضل من علماء المذاهب إلا وعُني به ما بين شارحٍ له وقارئ وساعٍ لتَلَقيه وحريصٍ على سماعه ومفتخِرٍ بالإجازة به وبقُرب السند إلى جامعِه، حتى إن أرباب الأَثْبات والمُسَلْسلات نوَّعوا الاتصالَ بجامعه [البخاري] بأسانيدَ غريبة، ما بين شامي وحجازي ومصري وعراقي وهندي ومغربي وروَوْه مُسَلْسَلاً بالشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة".

# المسألة الخامسة :

قول الفيديو: "البخاري صاحب أحاديث قتل المرتد، وحد الرجم، والماعز التي التهمت آيات فُقدت من القرآن. وحديث أن الرسول حاول الانتحار". وهذا أيضًا كذبٌ من عدة أوجه:

الأول: أنه يحاول أن يُلصق كل الأحاديث المُشكلة بشخص البخاري للتنفير منه والطعن في كتابه، في حين أن البخاري هو أولُ مَن صنَّف في "الصحيح المجرد" عن غيره من أنواع الحديث، لا أول من صنف في الحديث مطلقًا.

الثاني: أن قصة الشاة التي أكلت في بيت عائشة صحيفةً كان مكتوبًا عليها آية من القرآن ليست في البخاري أصلاً، وتَفَرد بها محمد بن إسحاق ولكن البخاري لا يروي عن ابن إسحاق في كتاب الصحيح، وقد روى هذه القصة أحمد وابن ماجه ولا تَثبت؛ لعدة علل إحداها: مخالفتها لرواية الأئمة الثقات فهي شاذة.

الثالث: أن حديث قتل المرتد لم يكن البخاري أولَ من رواه، فقد رواه قبلَه الإمام الشافعي (204هـ) وابنُ أبي شيبة (235هـ) وأحمد بن حنبل (241هـ). 

الرابع: أن حديث أن الرسول بعد انقطاع الوحي حاول أن "يَتردى من رؤوس شواهق الجبال" هو من كلام الزهري وليس من كلام عائشة صاحبة الحديث الأصلي، والبخاري عزاه للزهري (من بلاغات الزهري باصطلاحهم) وهو غير صحيح على شرط البخاري، ولذلك قال الشيخ ناصر الدين الألباني: "هذا العزو للبخاري خطأ فاحش، ذلك لأنه يُوهم أن قصة التردي هذه صحيحة على شرط البخاري؛ وليس كذلك".

والخلاصةُ أن أحاديث البخاري في الصحيح بلغت بالمكرر (سوى المُعلَّقات والمتابَعات) (7397) حديثًا، وقد انتقد العلماء منها (110) أحاديث، منها (32) حديثًا وافق البخاريَّ عليها الإمام مسلمٌ، بينما انفرد البخاري ب (78) حديثًا. قال الحافظ ابن حجر: "وليست عِلَلها كلها قادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهرٌ، والقدح فيه مندفعٌ، وبعضها الجواب عنه مُحتمِل، واليسيرُ منه في الجواب عنه تَعَسُّفٌ". وقد ناقشها حديثًا حديثًا في كتاب "هدي الساري". وقد فهم بعض الحفاظ من هذا عِظَم البخاري؛ إذ إن نسبة ما هو منتقد إلى ما لم يُنتَقَد هي عُشر العشر. أو كما قال القاسمي: ففي كل مئة حديث منها حديثٌ منظورٌ فيه.

وكان الإمام البخاري مجتهدًا مطلقًا في الفقه، ولذلك لا يصح انتسابه إلى أي مذهب فقهي، وقد استُنبط فقهه من عناوين تراجم أبواب كتابه، ومن آرائه الفقهية: أن الجُنُب لا بأس بقراءته للقرآن، وأن الغسل من الجِماع لا يجب إلا عند الإنزال ولكنه أَحوط، وأن فخذ الرجل ليس بعورة، وجواز دخول المشرك المسجد، وجواز الصلاة في الكنيسة التي ليس فيها تماثيل، وجواز إمامة المبتدع للصلاة، وجواز خدمة المرأة الرجال وقيامها عليهم، وغير ذلك.

#المسألة السادسة :

ولكن هل يعني كل ما سبق أن البخاري معصوم؟ أو أن كل حديث في الصحيح هو صحيح (قطعًا) في نفس الأمر؟ أو أنه يجب العمل بكل حديث في صحيح البخاري؟ الجواب بالتأكيد لا؛ لأن كتب الحديث لا تعدو أن تكون (مجاميع) للأحاديث المسندة والموثوقة على شرط أصحابها، ولكن الذي منح البخاري قيمة أعلى هو تلقي العلماء له وتوافقهم عليه، دون أن يعني ذلك القطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا بالحرف، ودون أن يعني ذلك أن كل حديث في البخاري يجب العمل فيه؛ لأنه ثمة فارقٌ بين الصحة والعمل، فقد يصح الحديث ولا يكون موضوعًا للعمل، كما أن المذاهب الفقهية كلها تأسست قبل وجود صحيح البخاري، واستقرت بعده من دون أن يكون له إسهامٌ أساسيٌّ في تَشَكلها.

وفي الختام، لم أكن أرغب في مناقشة الفيديو لولا إلحاح البعض، وقد اضطررت للرد لأن مثل هذه المعلومات المشوّهة تعوّق الفكر النقدي الذي أسعى إليه؛ فهي تفرض حالةً من السيولة اللا مسؤولة، ومن نافلة القول بعد كل ما سبق أن نشير إلى أن موقع "أصوات مغاربية" صاحب الفيديو يموله الكونغرس الأمريكي ويتبع لشبكة الشرق الأوسط للإرسال التي تدير قناة الحرة وراديو سوا، وذلك بحسب التعريف الذي وضعه الموقع لنفسه. 

الحلقة الأولى هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين