والنفس مولعة بحب العاجل

قال لي: " نحن نعمل عملا مما يبتغى به وجه الله ، ويطلب فيه رضاه إن صلحت النية وأتقن العمل ، ونتقاضى في مقابله أجرا ، فقيل لنا مرة 

: " من يأتي غدا متبرعا فجزاه الله خيرا؛ لكن لن يتقاضى على عمله في ذلك اليوم أجرا " .

فكانت النتيجة: أنه لم يأت أحد مطلقا إلى ذلك العمل في ذلك اليوم !

ولي صاحب جدّ في علمه ودراسته بصورة مفاجئة وملفتة ، ورأيته متحمسا حريصا يطلب المدارسة والمجالسة كل يوم بل كل ساعة ، وكان قبل ذلك مسوفا بطيئا متلكأ لا تكاد نفسه تنبسط للمدارسة إلا بعد لأي ومعاناة .

وسبب علو همته المفاجئ: أنه يدرس من أجل اختبار في مادة سيحصل فيه على مكافأة إن هو اجتازه بنجاح .

وأعرف من احتاج إلى درجة وظيفية معينة ، وتلك الدرجة لا تنال إلا بعد دراسة بعض المواد؛ فرأيته أحرص ما يكون على وقته ، واستفراغا لوسعه في الدارسة .

فلما حصل ما أراد [ عادت ريما إلى عادتها القديمة ] .

وأمثلة من ينشط في الأعمال التي يبتغى بها وجه الله من أجل الدنيا كثيرة مشهورة .

وحتى لا يدعي الخلي حرقة الشجي؛ فلست أزعم أني بريء من تلك الأعمال ،

بل أحسب أني لو كنت مع هؤلاء الذين طلب منهم التبرع بيوم = فلن أذهب وسأجلس في بيتي .

إلا أنني هنا أريد أن أبحث في سر المسألة ولبها 

وهو- في ما أرى - 

" أن النفس مولعة بحب العاجل" كما يقول أبو الطيب ،

وأن المرء لا ينشط في ما يقربه إلا الله والدار الآخرة- مع أنه موعود بثواب جزيل ، وأجر عظيم من رب كريم لا يخلف الميعاد - لأن ذلك غيب لم يره المرء ،ولا أحس به ، ولا علم حقيقته وكنهه ، ولم يكشف له الغطاء عنه 

فيظل متلكئا بطيئا .

وإلا لو زاد يقينه ، ورسخ الإيمان في قلبه لرأيت عجبا .

ودونك ما فعله الأوائل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

فإنهم صنعوا المعجزات 

فهذا عمير بن الحمام الأنصاري أخرج مسلم عن أنس بن مالك 

أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال يوم بدر : " قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ". قَالَ : يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ؟ قَالَ : " نَعَمْ ". قَالَ : بَخٍ بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ : بَخٍ بَخٍ ؟ " قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ : " فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا ". فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ : لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ. قَالَ : فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ، حَتَّى قُتِلَ.

وهذا أبو بكر يخرج ماله كله في سبيل الله عدة مرات .

والأمثلة كثيرة 

والمقصود: أن على المرء أن يقوي يقينه ، ويرسخ إيمانه بوعد ربه له ؛

فإن ذلك سيحمله- حتما- على التشمير عن ساعد الوجد ، وكد النفس في العلم والعمل .

والله المستعان

ولا حول ولا قوة إلا بالله

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين