العمل الإسلامي من كسب الأصوات إلى فقه الموازنات

فقه الموازنات: هو علم بيان الطرق والخطوات والمعايير التي تضبط عملية الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة، أو المتزاحمة؛ وهو فقه ملاصق لما يعرف بـ "فقه الأولويات" و "فقه المآلات" الذي سبق أن تحدثنا عنه في مناسبة سابقة، وهو فقه غالباً ما يدرجه الفقهاء في إطار "السياسة الشرعية".

ومن خلال ترصد العمل الإسلامي خلال العقود القليلة الماضية نجد أن أكثر الخيبات التي وقعت بالجماعات الإسلامية إنما ترجع إلى نقص أو خلل في الموازنة بين المصالح والمفاسد، فقد وجدنا بعض الإسلاميين يقدمون مصالح متوهمة على حساب مصالح محققة، وربما اشتط بعضهم فعمد إلى مزايدات في مصالح متوهمة، أو تنازلات في مفاسد متوهمة!

ولا بد من البيان هنا أن فقه الموازنات سهل من حيث التأصيل والتنظير، لكنه صعب من حيث الممارسة والتطبيق بسبب تزاحم المصالح والمفاسد؛ فلا يُدرك هذا الفقه بمجرد النظر، بل لابد فيه من الاستعانة بأهل الخبرة والدراية؛ إذ لا مصلحة إلا وتلتبس بمفسدة، وما من مفسدة إلا وتلتبس بمصلحة؛ فالصلاح المحض نادر جداً، وكذلك الفساد المحض، وقد نقل عن بعض السلف أن العاقل ليس الذي يميز الخير من الشر إنما العاقل من يميز خير الخيرين ويميز شر الشرين، وهذا النوع من التمييز دقيق جداً في معظم الأحوال فلا يدركه إلا أصحاب الخبرة والدراية، ومن آتاهم االله البصيرة، وسعة أفق .

وقد ورد في القرآن الكريم كثيراً من الأمثلة مما يتعلق بفقه الموازنات، منها ما ورد في "سورة الكهف" من أفعال "العبد الصالح" ومن ذلك مثلاً قوله : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) سورة الكهف 79 ، فقد وازن العبد الصالح هنا بين أن تبقى السفينة لأصحابها وفيها خرق وعيب، وبين أن تضيع كلها؛ فوجد – محقاً - أن حفظ البعض أولى من أن يضيع الكل، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية (ت 728هـ - 1328م ) رحمه الله تعالى : "إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة" الفتاوى 20/57، كما بوب الإمام النووي ( 676هـ - 1277م ) رحمه الله تعالى في صحيح مسلم باباً سماه "باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين" وأورد في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يصلين أحدٌ العصرَ إلا في بني قُريظة ) صحيح البخاري باب الصلاة عند مناهضة الحصون، الحديث 902 . فقد كان من فقه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في فهم هذا النص:

1 - الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ أي بين الاشتغال بالصلاة أو الإسراع إلى العدو.

2 تقديم بعضهم أولوية المسارعة إلى العدو على أولوية الصلاة، وتقديم بعضهم أولوية الصلاة على المسارعة إلى العدو.

3 عدم الخلاف بين الذين أخذوا بظاهر النص فصلوا الصلاة في وقتها، وبين الذين أخذوا بمقصد النص وهو طلب الإسراع إلى العدو ولو أدى إلى تأخير الصلاة عن وقتها، وفي هذا الموقف الحكيم دليل على فهم عالٍ لفقه الخلاف عند ذلك السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.

ويتبين من هذا المثال - وأشباهه كثير في القرآن الكريم - أن خياراتنا ليست دوماً بين أعلى مصلحتين؛ كما هي الحال مثلاً في زمن التمكين؛ ففي زمن الاستضعاف غالباً ما تكون الخيارات بين أدنى مفسدتين، لكن بدوافع البحث عن كسب الجماهير تميل النفس عند بعضهم لمخاطبة الجماهير بمصالح متوهمة، يغمض عينيه عن المفاسد مسايرة للجماهير التي تحب عادةً من يخاطبها على المصالح والإنجازات والبطولات والانتصارات ولو كانت وهمية كاذبة، وتنفر ممن يحذرها من المفاسد والمصائب ولو كانت متحققة!!؟

ولا شك بأن هذه الحالة العاطفية لدى الجماهير هي التي تسمح لمثل هذا الخطاب أن يشيع وأن ينتشر، مع ما فيه من عوار واضح، وما ينطوي عليه من دمار محقق، فهو خطاب يساهم في تزييف الوعي وانتشار الجهل، واختلال الموازين، وانحراف البوصلة، ويحول التضحيات الباهظة إلى خيبات وانكسارات مؤلمة!

وهذا كله بسبب الجهل بفقه الموازنات، هذا الجهل الذي ابتلي به ليس الجماعات الإسلامية فحسب؛ بل مختلف العاملين في الشأن العام عندنا، فلا غرابة والحالة هذه أن تفوت الأمة الكثير من المصالح، وأن تواجه العديد من النكبات والنكسات!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين