السنّة بين سوء القصد وسوء الفهم(2)

يستهدف " التنويريون " وأشياعهُم من عقلانيين وقرآنيين هدم صرح الإسلام بإعمال معاول الهدم في مصدره الثاني بعد القرآن الكريم ، لكن هناك صنفا آخر يسيء إلى السنة النبوية إساءة واضحة من حيث مبالغته في التمسّك بها والجمود عليها ، يتمثّل في بعض الذين يحسبون أنفسهم على السلفيين ، يُعلون من شأن السنة أكثر من القرآن ، ولئن كان قصدهم حسنا فقد أُتوا من جانب الفهم ، فهم حين يتناولون الأحاديث النبوية " يخرّون عليها صمّا وعميانا " ، جنتْ عليهم الحرفية والظاهرية والجمود ، لا علم لهم بأصول الفقه ولا مقاصد الشريعة ، لخّصوا السنة في الحرص على الجزئيات و الأشكال ، يرفضون التفصيل الذي انتهى إليه العلماء المختصون الذين يفرقون بين الأصول والفروع والكليات والجزئيات ، بين سنة تشريعية وغير تشريعية ، بين تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم كنبيّ يبلّغ الوحي وكقائد له اجتهاداته الظرفية وكقاض يحتكم إلى الأدلة وكإنسان له مشاعره وأذواقه...

السنة عندهم " هي الإسلام " وانتهى الأمر، لا يفهمون أن السنة هي منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الله تعالى ومع الناس في جميع المجالات والظروف ، تبيّن لنا كيف نعبد الله وكيف تكون علاقاتنا بأفراد الأسرة والجيران والمسلمين وغير المسلمين ، في مجال النشاط الدعوي والسياسي والمالي والاجتماعي ...هي الدليل العملي للمسلم في حياته الدينية والاجتماعية على جميع المستويات مهما تغيّر الزمان والمكان والحال، لكن قلّة البضاعة العلمية جعلتهم يخطئون على ثلاثة أصعدة:

- على صعيد المرجعية قدّموا – عمليا - السنة على القرآن أو على الأقلّ ساووا بينهما ، وهذا ما لم يقل به أصولي ولا فقيه ولا اختلفت فيه الأمة أبدًا ، من أجل هذا ضعّفوا حديث معاذ بن جبل الشهير الذي فيه ترتيب للمرجعية : القرآن ثم السنة ثم الاجتهاد ، ومن الطرائف أني سألت مرة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله – وهم من كبار علماء الحديث في الشام - عن درجة هذا الحديث فقال لي " هو صحيح ضعّفه الضعفاء ".

- على صعيد مراتب الأحكام ألغوا هذه المراتب الذي أجمع عليها المسلمون ولخصوها في الفرض والحرام ، فكلّ أمر نبوي هو فرض، وكل نهي هو حرام ، فاخترعوا فرائض جديدة ( كاللحية وجلسة الاستراحة وتقصير الثوب) وكبائر جديدة ( كالتصوير والموسيقى واستخدام العقل) ، وأنا اقترح على القراء أن يرجعوا إلى واحد من أشهر كتب الحديث "رياض الصالحين" ليروا كيف يفصّل الإمام النووي ويقول بالاستحباب مع الفرض والمكروه مع المحرم وهكذا.

- على صعيد التعميم حيث يتكئون على حديث أو حديثين في موضوع ما فيرتّبون عليه أحكاما غاية في الشدة والخطورة ويُهملون عشرات الأحاديث الأخرى في نفس الموضوع كان ينبغي جمعها وقراءتها قراءة موضوعية أصولية عميقة كما يفعل الراسخون ، بهذه القراءة التبعيضية المبتورة جاؤوا بطامّات مثل الطاعة العمياء للحاكم الظالم، وتحريم الوسائل الجديدة وإنزالها منزلة الغايات والأهداف وإلزام الرجال باللباس العربي ( ويسمّونه لباسا شرعيا).

بسبب ما سبق خالفوا إجماع الأمة في مسائل مصيرية، وأفنوا أعمارهم في الفروع المختلف فيها ففرّقوا الجماعات وتمحّضوا للهدم وغفلوا عن قضايا المسلمين الكبرى ، فالسواك عندهم أهمّ من قضية فلسطين ، وزادوا على ذلك بمخالفة الهدي النبوي مخالفة سافرة فجّة بانتهاجهم منهج تكفير المسلمين المخالفين لهم وتبديع العلماء وتفسيق الدعاة وتضليل المصلحين ، مع جنوح غريب لبذاءة اللسان والشتائم والغلظة والعيش على هامش المجتمع المسلم والتعالي عليه ، بالإضافة إلى جرعات قوية من التعصب والجمود وربط الدين بالماضي وحده وأشكاله ووسائله ومعاداة كل جديد مهما كان نافعا.

بهذا جعلوا كثيرًا من الناس يتقزّزون من السنة وينفرون من الدين.

علماء الحديث الراسخون موجودون في طول بلاد المسلمين وعرضها، والكتب العميقة متوفرة من تأليف القدامى والمحْدثين، لكن هؤلاء الذين احتكروا السنة النبوية يحضَون بتدعيم مالي وإعلامي كبير جدا من مراجعهم ومن جهات تحرّكهم بيّنت الأحداث أنها تضمر الاساءة إلى الإسلام بترويج هذه البضاعة الدينية التي تؤخّر ولا تقدّم، وتهدم ولا تبني ، والحلّ إذًا في تحرير السنة وردّها إلى أهلها أصحاب الإخلاص والصواب فهما وشرحا وتطبيقا.

الحلقة الأولى هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين