إمساس الألفاظ أشباه المعاني 

أقلِّبُ نظري بين الفينة والأخرى في بعض المواقع التي تُعنى بنشر المقالات التي يجب أن تكون علميَّة في حدِّها الأدنى، ويشدُّني إلى متابعتها بعض العناوين، ومن هذه المواقع رابطة العلماء السوريين، حيث تنشر مقالات في فنون شتَّى، وغالبًا ما تكون مجرَّد رأي لا يمكن أن تُدرج في سياق البحث العلميّ.

نشرت الرَّابطة على موقعها بتاريخ 7 / 2 / 2018م مقالة بعنوان: (الخصائص العامَّة للغة العربيَّة) لكاتبها د. التهامي الرَّاجي الهاشمي، وظننتُ أوَّل وهلة أنَّ المقالة زاخرة بما يتَّصل بعنوانها، فتبيِّن اللغة العربيَّة في أبهى صورة من خلال خصائصها، إلا أنَّه راعني ما وقع في المقالة أخطاء لغويَّة، ونحويَّة، وعلميَّة في مقدَّمتها، الأمر الذي يدفعني إلى أن أطالب الرَّابطة بضرورة التَّدقيق اللُّغوي والعلمي لما ينشر على مواقعها، وسأكتفي بالإشارة إلى ما وقع في المقدمة فحسب.

قال الكاتب: (إن بعضهم بالغ في درجة أن أعطى لكل حرف معنى يلازمه، وأصبح يفسر اللغة انطلاقًا من مزج حروفها، وعلى رأس هؤلاء اللغوي ابن فارس الذي وضع معجمًا حاول إخضاع اللغة فيه لهذا المنحى، فصار يستخرج معنى الكلمة من مزج حروفها، فيقول مثلًا: إن أصل معنى قط، أي: حين يجتمع القاف مع الطاء، هو القطع، وأن معنى: قطف: هو القطع بلين وأن قطب هو القطع بلين شديد، إلى آخره، وهو أمر لا يمكن أن يكون مقبولًا؛ لأن لو كان الأمر كذلك ما اختلفت اللغات).

والظَّاهر أن الكاتب قد خلط عليه ما سمَّاه (مزجًا)، وتوهَّم أنَّه (الاشتقاق) بأنواعه؛ الأصغر والكبير، والأكبر، ثمّ نسب إلى (ابن فارس) ما لم يقله، إلا إن بيَّن لنا مصدر نسبته إليه، لأنَّنا لم نجدها في معجمَيْه، ولعلَّ الكاتب قد اعتمدَ على (طبعة) ليست بين أيدينا.

وإذا ما عدنا إلى المادِّتين اللتين يذكرهما الكاتب وهما: (قطف) و(قطب) فإنَّنا لا نجدُ ما ينسبه إلى ابن فارس؛ بل نجدُ أنَّ (ابن فارس) قد قال بخلافه، حيث أخرج (قطب) من معنى (القطع)، ولم يجعلها بمعنى (القطع بلين شديد) كما زعم الكاتب، يقول ابن فارس في (مقاييسه):

(قطب: القاف والطَّاء والباء أصل صحيح يدلُّ على الجمع..... فأمَّا قولهم: قطبتُ الشَّيء إذا قطعته فليس من هذا، إنَّما هو من باب الإبدال، والأصل: الضَّاد: قضبت، وقد فسَّرناه) (1). وعندما ذكره في (المجمل) قال: (قطب الشَّيء أقطبه إذا قطعه) يشير إلى ما ذكره من الإبدال، وليس أصلًا في الباب، لأنَّه ذكر أنَّ (قضب: القاف والضَّاد والباء: أصل صحيح يدل على قطع الشَّيء) (2).

ثمَّ قرَّر الكاتب حكمًا بناء على هذا الخلط، وما يُضاف إليه من استقراء ناقص أنَّ هذا الأمر لا يمكن قبوله، لأنَّه سيؤديّ كما يرى إلى عدم اختلاف اللغات.

والحقيقة أنَّ من أشار إلى مواقع الحروف الذي يريده الكاتب هو (ابن جنِّي) في كتابه (الخصائص)، في باب أسماه: (إمساس الألفاظ أشباه المعاني)، حيث يقول: (فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث، فباب عظيم واسع، ونهج متلئب عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبَّر بها عنها، فيعدلونها بها ويحتذونها عليها، وذلك أكثر مما نقدره، وأضعاف ما نستشعره) (3).

ثم أورد (ابن جنِّي) أمثلة كثيرة على ذلك، منها (قولهم: خضم وقضم، فالخضم لأكل الرّطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس نحو: قضمت الدابة شعيرها ونحو ذلك. وفي الخبر قد يدرك الخضم بالقضم، أي: قد يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف. وعليه قول أبي الدرداء: يخضمون ونقضم والموعد الله، فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس حذوًا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث) (4).

ومنها (القدّ طولًا والقط عرضًا، وذلك أن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعًا له من الدال، فجعلوا الطاء المناجزة لقطع العرض؛ لقربه وسرعته، والدَّال المماطلة لما طال من الأثر وهو قطعه طولًا) (5).

ومنها (الوسيلة والوصيلة، والصاد -كما ترى- أقوى صوتًا من السين لما فيها من الاستعلاء، والوصيلة أقوى معنى من الوسيلة. وذلك أن التوسّل ليست له عصمة الوصل والصلة؛ بل الصلة أصلها من اتصال الشيء بالشيء ومماسّته له، وكونه في أكثر الأحوال بعضًا له؛ كاتصال الأعضاء بالإنسان وهي أبعاضه، ونحو ذلك، والتوسل معنى يضعف ويصغر أن يكون المتوسّل جزءًا أو كالجزء من المتوسل إليه. وهذا واضح؛ فجعلوا الصاد لقوّتها للمعنى الأقوى، والسين لضعفها للمعنى الأضعف) (6). 

ثم يختم أمثلته بقوله: (فهذا ونحوه أمر إذا أنت أتيته من بابه، وأصلحت فكرك لتناوله وتأمله، أعطاك مقادته، وأركبك ذروته، وجلا عليك بهجاته ومحاسنه، وإن أنت تناكرته وقلت: هذا أمر منتشر، ومذهب صعب موعر، حرمت نفسك لذته، وسددت عليها باب الحظوة به) (7).

ويبرع عند حديثه عن اختلاف مكان الحرف في اللفظ، وكيف لا يبرع وهو من حذَّاق اللغة، وربٌّ من أربابها!! فيقول:

(ومن وراء هذا ما اللّطف فيه أظهر، والحكمة أعلى وأصنع. وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبَّر عنها بها ترتيبها، وتقديم ما يضاهي أوّل الحدث، وتأخير ما يضاهي آخره، وتوسيط ما يضاهي أوسطه، سوقًا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب.

وذلك قولهم: بحث. فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض، والحاء لصحلها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب، ونحوهما إذا غارت في الأرض والثاء للنفث، والبث للتراب. 

وهذا أمر تراه محسوسًا محصلًا، فأيّ شبهة تبقى بعده، أم أيّ شك يعرض على مثله. ......ومن ذلك قولهم: شدَّ الحبل ونحوه. فالشين بما فيها من التفشي تشبه بالصوت أوّل انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليه إحكام الشدّ والجذب وتأريب العقد، فيعبر عنه بالدال التي هي أقوى من الشين, ولاسيما وهي مدغمة, فهو أقوى لصنعتها وأدلّ على المعنى الذي أريد بها. ويقال: شدَّ وهو يشد. فأمَّا الشدة في الأمر فإنها مستعارة من شدّ الحبل ونحوه لضرب من الاتساع والمبالغة، على حد ما نقول: فيما يشبه بغيره لتقوية أمره المراد به) (8).

ثم يختم ذلك ليبيَّن علَّة خفائها على الباحث فيقول: (إن أنت رأيت شيئًا من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه، ولا يتابعك على ما أوردناه، فأحد أمرين: 

إما أن تكون لم تنعم النظر فيه فيقعد بك فكرك عنه، أو لأنّ لهذه اللغة أصولًا وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا كما قال سيبويه، أو لأنَّ الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر) (9).

وكان (ابن جنِّي) قد سبق هذا الباب ببابٍ قال عنه: (هذا غور من العربية لا ينتصف منه ولا يكاد يحاط به. وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غفلًا مسهوًّا عنه) (10)، وأسماه (باب تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني)، وهو قريب ممَّا نحن فيه، ويشير إلى تقارب المعاني بعضها من بعض، وذكر أمثلة عليه من ذلك استعمالهم: (تركيب: ج ب ل، و: ج ب ن، و: ج ب ر، لتقاربها في موضع واحد وهو الالتئام والتماسك. منه الجبل لشدّته وقوته، وجبن إذا استمسك وتوقَّف وتجمَّع، ومنه جبرت العظم ونحوه، أي: قويته) (11). ومنه قولهم: (أفل، كما قالوا: غبر؛ لأن أفل: غاب، والغابر غائب أيضًا. فذاك من: أف ل، وهذا من: غ ب ر، فالهمزة أخت الغين، والفاء أخت الباء، واللام أخت الراء) (12).

من أجل ذلك نختلف مع الكاتب، ونجزم أنَّ لكل حرفٍ معناه الخاص الذي لا ينازعه فيه حرفٌ آخر، مهما يكن موقعه من الثُّلاثي الذي ذكره الكاتب، سواء أكان فاء الفعل، أو عينه، أم لامُه، فالفعل (غرف) يدلُّ على غموض في تمامه، والغين في فائه تناسب أوَّل مرحلة من مراحل (الغرْف) إذ إنَّ (الغارف) يغيِّب يديه في (المغروف) منه، لتأتي الرَّاء في عينه دالَّة على الحركة والاضطراب؛ لتناسب الحدث في مرحلته الثَّاني؛ لأنَّ (الغارف) يحرِّك مغرفته ويديه في (المغروف) منه، ثم تأتي الفاء في لامه لتدل على الظهور والفصل؛ لتناسب انتهاء الفعل، وظهور (المغرفة) بعد تغييبها، فلو أبدلنا لام الفعل وصيَّرناه (قافًا) لناسبتْ فعل (الغرق)؛ لأنَّ الغريق يستتر في مرحلته الأولى في الماء، ثم يتحرِّك محاولًا النَّجاة، لتأتي القاف لتدلَّ على (الرسُّوب) و(الانتهاء) مؤذنة بموته، وكذلك الحال لو وضعنا مكان (القاف) (باءً)، أو (دالًا)، أو (راءً)، أو (زايًا) وغيرها لتغيَّر المعنى لتغيّر (الحرف) الذي يضيف معنًى جديدًا قائمًا في ذاتِه إلى المعنيَيْن القائمين في (فاء) الفعل، وعينه.

وهذا النَّحو (من الصنعة موجود في أكثر الكلام وفرش اللغة، وإنما بقي من يثيره ويبحث عن مكنونه، بل مَنْ إذا أوضح له وكشفت عنده حقيقته طاع طبعه لها فوعاها وتقبلها. وهيهات ذلك مطلبًا، وعزَّ فيهم مذهبًا! وقد قال أبو بكر: من عرف ألف، ومن جهل استوحش) (13). ونحن ندعو الباحثين والدَّارسين أن يخوضوا غماره، ويكشفوا أسراره، ويبحثوا في مكنونه.

وإذا كانت هذه حال من هو من أهل اللغة، فكيف حال من ينسبُ نفسه إليها؟! وأذكر هنا ما قاله أخونا الدكتور حسان الطيَّان في مقالته التي نشرها في مجلة التراث العربي لما تكلَّم على (الصَّيدواي): (إن النَّحو لا يُعلم اللغة) (14). ثم نقل عن الصَّيدواي قوله: (من كان يريد أن يحسن اللغة فسبيله استظهار روائعها، لا قراءة النحو واستظهار مسائله، كل كتب النحو كلها، كلها من كتاب سيبويه فنازلًا، لا تعدل في موازين إحسان اللغة مثقال ذرة...) (15).

ينظر المقال: الخصائص العامة للغة العربية هــنا

--------------

(1) مقاييس اللغة: 5/88.

(2) مقاييس اللغة: 5/83.

(3) الخصائص: 2/159.

(4) الخصائص: 2/159.

(5) الخصائص: 2/160.

(6) الخصائص: 2/162.

(7) الخصائص: 2/164.

(8) الخصائص: 2/165.

(9) الخصائص: 2/162.

(10) الخصائص: 2/147.

(11) الخصائص: 2/151.

(12) الخصائص: 2/154.

(13) الخصائص: 2/154.

(14) مجلة التراث العربي: عدد101، ص 273.

(15) مجلة التراث العربي: عدد101 ص273.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين