الإنسانية

هذه الخطبة من خطب جامع السلام في حلب الشهباء ، وقد تكرَّم الأخ الكريم الأستاذ طارق قباوة بإحيائها وطباعتها، وطلب مني مراجعتها وأسأل الله سبحانه أن يتقبل مني، ويجعل هذه الكلمات من العلم الذي ينتفع به، وشكر الله للأخ الكريم طارق الذي أحيا ما اندرس من تلك الأوراق الكثيرة التي كتبتها بقلمي وألقيتها في خطب الجمعة على منابر مساجد حلب وغيرهاوأسأله سبحانه أن يردنا إلى بلادنا لنتابع سيرة الدعوة والعلم، وأن يبارك في أعمارنا وعلمنا وعملنا وذرياتنا، ويرزقنا السداد والإخلاص في أقوالنا وأعمالنا.

الجمعة /6/صفر/1399هـ جامع السلام

من خصائص الإسلام أنه دين يمتاز بنزعته الإنسانية الواضحة في معتقداته وتوجهاته.

إن الإنسان مخلوق لله، ولكنه أكرم المخلوقات على الله تعالى، وهو الوحيد من بينها ـ على كثرتها ـ الذي اختاره الله ليكون خليفته في الأرض، وكرمه بالعقل، وهداه السبيل، وعلمه البيان، وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيماً...

إن الإنسان مخلوقٌ متميز بمواهبه وملكاته وقواه الروحية والعقلية والمادية، التي أهَّله الله بها ليحمل مسؤولية الخلافة، وأمانة التكاليف، وهي أمانة بلغت من العظم، والثقل مبلغاً عبَّر عنه القرآن:[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا] {الأحزاب:72}.

وإذا نظرنا إلى المصدر الأول للإسلام وهو القرآن كتابُ الله تعالى، وتدبرنا آياته وتأملنا موضوعاته واهتماماته نستطيع أن نصفه بأنه كتاب الإنسان فالقرآن كله إما حديث إلى الإنسان، أو حديث عن الإنسان، إن كلمة (الإنسان) تكررت في القرآن ثلاثاً وستين مرة، فضلاً عن ذكره بألفاظ أخرى مثل (بني آدم) التي ذكرت ست مرات، وكلمة (الناس) التي ذكرت مائتين وأربعين مرة في مكيِّ القرآن ومدنيه.

ولعل من أبرز الدلائل على ذلك أن أول ما نزل من آيات الوحي الإلهي الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم خمس آيات من سورة العلق ذكرت كلمة الإنسان في اثنتين منها ومضمونها كلها العناية بأمر الإنسان هذه الآيات هي:[اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ(4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) ]. {العلق}.

إن هذه الآيات الكريمة التي بدأ بها الوحي الإلهي تاريخاً جديداً للبشرية تعبر أوضح تعبير عن نظرة الإسلام إلى الإنسان، وعلاقته بالله تعالى... فالإنسان في هذه الآيات مأمور أن يقرأ، وإنما خص القراءة بالذكر، لأنها نقطة الانطلاق للإنسان، ولأن العمل في الإسلام يجب أن يقوم على العلم، والعلم مفتاحه القراءة.. ولم يؤمر الإنسان هنا بمجرد القراءة، بل بقراءة مقيدة باسم ربه الخالق الأكرم... فهذه الآيات لم تغفل شأن الإنسان وعلاقته بربه: التي هي علاقة الخلق والفكر، والهداية والتعليم.

محمد صلى الله عليه وسلم الرسول الإنسان:

وإذا نظرنا إلى الشخص الذي جسَّد الله فيه الإسلام، وجعله مثالاً حياً لتعاليمه وكان خلقه القرآن، إنه محمد عليه الصلاة والسلام، الرسول الإنسان. والقرآن الكريم ليركز في أكثر من موضع وأكثر من آية على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وإنسانيته. [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ] {الكهف:110} . ويرد على المشركين المتعنتين من مقترحي الآيات الكونية على سبيل الجحود والتحدي يجيبهم بهذه الكلمة الموجزة الجامعة:[ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا] {الإسراء:93}.

ولهذا رأيناه صلى الله عليه وسلم يأكل ويشرب، ويتزوج وينجب، ويفرح ويحزن، ويرضى ويسخط... وبهذا صلح أن يكون قدوة للبشر كل البشر:[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] {الأحزاب:21}.

الجانب الإنساني في دعوات الرسل عليهم الصلاة والسلام:

وهكذا اقتضت سنة الله على اختيار الرسل رجالاً من الناس يتمتعون بكافة خصائص الجسد البشري وصفاته [وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ(8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا المُسْرِفِينَ(9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(10) ]. {الأنبياء}.. وهكذا نجد دعوات الرسل لم تنفصل عن الجانب الإنساني، ولم تهمل أحوال المجتمع الإنساني بل عملت على إصلاحه، ومقاومة الفساد والانحراف في حياة البشرية.

بعض مظاهر التكريم الإلهي للإنسان:

الإنسان في نظر الإسلام مخلوق متميز، مخلوق مكرم، ويحسن هنا أن نذكر بعض مظاهر التكريم الإلهي للإنسان.

استخلافه في الأرض:

لقد أعلن الإسلام كرامة الإنسان فاعتبره خليفة الله في الأرض، وهي منزلة اشرأبت إليها أعناق الملائكة وتشوَّقت إليها أنفسهم فلم ينالوها، ومنحها الله للإنسان.[هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ(32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ(33) ]. {البقرة}.

خلقه في أحسن تقويم:

وأعلن الإسلام كذلك أن الله كرم الإنسان بالصورة الحسنة والخِلقة الحسنة كما قال تعالى: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] {التِّين:4}. [وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ] {غافر:64}. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر هذا الدعاء في سجوده:« سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين».

تمييزه بالعنصر الروحي

وفوق ذلك كله كرَّمه بالروح العلوي الذي أودعه الله بين جنبيه، فهو قبس من نور الله ونفخة من روح الله، استحق به أن ينحني له الملائكة إجلالاً وإكباراً لمقدمه بأمر الله كما قال تعالى لملائكته:[إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] {ص:72-71 }. وهذه النفخة الروحية الإلهية ليست خاصة بآدم أبي البشر، كما يتوهم بعض الناس، فإن نسله وبنيه قد نالهم حظ منها، كما قال تعالى بعد أن ذكر خلق آدم [ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ(9) ]. {السجدة}.. ولهذا أعلن القرآن كرامة البشر كافة حين قال:[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا] {الإسراء:70}.

تسخير الكون لخدمة الإنسان:

وكان من تكريم الله للإنسان في نظر الإسلام أنه جعل الكون كلَّه في خدمته وسخر لمنفعته العوالم كلها: السماء والأرض، الشمس والقمر والنجوم، والليل والنهار، والبحار والأنهار، والنبات والحيوان، والجماد، كلها مسخرة لمصلحة الإنسان، وسعادة الإنسان، يقول تعالى مخاطباً بني الإنسان: [قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ(31) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ(32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34) ]. {إبراهيم}.. [أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً] {لقمان:20}.

وتسخير الكون للإنسان يتضمن معنيين كبيرين أولهما:

أن الطاقات الكونية كلها مهيأة ومبذولة للإنسان فعليه أن يبذل جهده، ويعمل فكره، في فتح مغاليقها، واكتشاف مخبوئها، ليستخدمها فيما يعود عليه بالخير والسعادة. وثانيهما: أن الإنسان هو واسطة العِقد في هذا العالم، وإن صغر حجمه بالنسبة للمكان، أو قصر عمره بالنسبة للزمان، فلا يجوز للإنسان إذن أن يتعبد هذه القوى الكونية. فيتحول من سيد مسخر له الكون إلى عبد ذليل يسجد لنجم أو شجرة، أو بقرة، أو حجر من الأحجار... أو غير ذلك مما سجله التاريخ من أوهام البشر وضلالاتهم إذا انحرفوا عن هداية الله، على عكس ما أراده الله للإنسان، وما أراده من الإنسان.

الاعتراف بالكيان الإنساني كله:

وكان من تكريم الإسلام للإنسان أن اعترف به كلَّه كما فطره الله: جسمه وروحه، وعقله وقلبه، وإرادته ووجدانه، فلم يغفل حق جانب من هذه الجوانب لحساب آخر...

ولهذا أمره بعبادة الله وحده، والتقرب إليه بأنواع الطاعات من صلاة وصيام، وصدقة وزكاة وحج وعمرة، وذكر ودعاء، وإنابه وتوكل، وخوف ورجاء، وبر وإحسان، وجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من ألوان العبادة الظاهرة والباطنة وفاءً بحق الروح.

وأمره بالسعي في الأرض والمشي في مناكبها والأكل من طيباتها، والاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده وحثه على التجمل والاعتدال ونهاه عن كل ما يضر به وفاءً بحق الجسم.

وأمره بالنظر والتفكر في ملكوت السموات والأرض... وما خلق الله من شيء وفي مصائر الأمم، وسنن الله في المجتمعات، كما أمره بطلب العلم والتماس الحكمة... كل ذلك وفاء بحق العقل.

ولفته إلى جمال الكون بأرضه وسمائه وبناته وحيوانه، وما زانه الله به من مظاهر الحسن والبهجة ليشعر في أعماقه بعظمة ربه الذي أحسن كل شيء خلقه، وليشيع حاسة الجمال في نفسه وأباح له التمتع بألوان من اللهو والترفيه وفي هذا رعاية لجانب الوجدان والعاطفة.

تميز الإنسانية في الإسلام

ولا ريب أن هناك أدياناً ونحلاً ومذاهب وفلسفات تهتم بالإنسان وتفاخر وتعلق بأنها (إنسانية) لكن العيب المشترك في هذه المذاهب والفلسفات أنها لم تعرف الإنسان معرفة محيطة به، وإنما نظرت إليه من زاوية معينة أو من جانب خاص غافلة عن الجوانب الأخرى فجارت على الإنسان باسم الإنسان.

إن بعض الأديان والفلسفات نظرت إلى الجانب الروحيِّ في الإنسان غير عابئةٍ بجانبه العقلي، وجانبه الحسي والمادي، بل ربما دعت إلى تعذيب الجسم في سبيل سعادة الروح.

وبعض المذاهب والفلسفات لم تنظر إلا إلى الجانب المادي في الإنسان ولم تبال بغيره، ولم تعترف بسواه، فالإنسان كائن اقتصادي، أو حيوان منتج لا أكثر.

وبعض المذاهب والفلسفات ألهت الإنسان واعتبرته كائناً مستقلاً يقوم وحده، مستغنياً عن الله فأساءت إلى الإنسان من حيث أرادات الإحسان إليه، وجعلته نباتاً شيطانياً خرج إلى الوجود من غير زارع، ولغير هدف إلا أن ييبس ويصبح هشيماً تذروه الرياح، أو تأكله النار.

وبعض المذاهب ـ كالرأسمالية ـ تعظم الإنسان الفرد، وتطلق له العنان، حتى يتحطم في النهاية باسم الحرية، دون أن تجعل للمجتمع حقاً في مراقبته ومحاسبته وتقويمه من أجل مصلحته هو في النهاية، ومصلحة المجتمع من ورائه...

وبعض آخر ـ كالشيوعية ـ يضغط على الإنسان الفرد ويكبله بقيود شتى، ويحرمه من كثير من الحريات وكثير من الحقوق الطبيعية باسم المجتمع حتى يكاد يسحقه سحقاً.

أما الإسلام فقد تميز عن هذه الأديان والفلسفات بنظرته الشاملة المحيطة بالإنسان والنفاذ إلى أغوار طبيعته، والاعتراف بكل جوانبه وخصائصه، دون ميل أو شطط، أو إهمال لناحية لحساب أخرى.

تقرير حقوق الإنسان

قبل أن تسمع أذن الدنيا عن حقوق الإنسان باثنتي عشر قرناً أو تزيد، ويوم كان العالم كله لا ينظر للإنسان إلا من جهة ما عليه من واجبات يطالب بها، جاء الإسلام ليقرر جهرة أن للإنسان حقوقاً ينبغي أن ترعى، كما أن عليه واجباتٍ ينبغي أن تؤدى. وكما أنه يسأل عما عليه، يجب أن يعطيَ ما له، فكل واجب يقابله حق، وكما أن كل حق يقابله واجب... وهذه الحقوق ليست منحةً من مخلوق مثله، يمن بها عليه إن شاء، ويسلبها متى شاء، كلا... ليست منحة من ملك أو أمير أو حزب أو لجنة... إنما هي حقوق قررها الله له بمقتضى فطرته الإنسانية فهي حقوق ثابتة دائمة له.

من هذه الحقوق: حق الحياة، حق الكرامة، حق التفكير، حق التدين والاعتقاد، حق التعليم، حق التملك، حق الأمن... وسأقتصر على الحديث الخاطف من بعض هذه الحقوق طلباً للاختصار.

فمن هذه الحقوق: حق الحياة للإنسان، ولقد قدس الإسلام حق الحياة وحماه بالتربية والتوجيه، وبالتشريع والقضاء، وبكل المؤيدات النفسية والفكرية والاجتماعية.واعتبر الحياة هبةً من الله تعالى لا يجوز لأحد أن يسلبها غيره، لا يجوز لحاكم أن يسلب حياة المحكوم، ولا لسيد أن يسلب حياة عبده، ولا لزوج أن يسلب حياة زوجه، ولا لوالد أن يسلب حياة ولده. ولا غرو أن أنكر القرآن على أهل الجاهلية من العرب الذين قتلوا أولادهم ووأدوا البنات مخافة العار [وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9) ]. {التَّكوير}..[وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا] {الإسراء:31}. ومهما يكن الدافع إلى هذا المنكر اقتصادياً أو غير اقتصادي، فإن الإسلام يحرم هذا العمل الوحشي، أشد التحريم لأنه قتل وقطيعة رحم: وعدوان على نفس ضعيفة، ولذلك سئل عليه الصلاة والسلام فيما يرويه البخاري ومسلم:« أيُّ الذنب أعظم؟ فقال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك! قيل: ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء كالرجال على تحريم هذه الجريمة والانتهاء منها. [لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ]. {الممتحنة}. .

ولم يفرق الإسلام في حق الحياة بين أبيض وأسود، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين حر وعبد، ولا بين كبير وصغير، حتى الجنين في بطن أمه له حرمة لا يجوز المساس بها، حتى الجنين الذي ينشأ عن طريق الحرام لا يجوز لأمه ولا لغير أمه أن تسقطه، لأنه نفس محترمة لها حق الحياة ولما جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقرت أنها زنت وأنها حبلى من ا لزنى، وطلبت إليه أن يطهرها بإقامة الحد عليها قال لها: اذهبي حتى تلدي، فلما ولدت جاءت بطفلها، مطالبة بإقامة الحد مرة أخرى، فقال لها: اذهبي فأرضعيه حتى تطعميه وتعود المرأة ترضع ولدها وتمضي مدة الرضاع، وهي حولان كاملان ـ ولم ينفذ فيها العقوبة إلا بعد أن جاءت به بعد أن أصبح يأكل طعاماً، كل هذا رعاية به لحق الجنين، ثم المولود الرضيع، لأنه لا ذنب له فيما جنته أمه، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

ومن أجل المحافظة على الحياة جاءت آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تنذر بأشد العذاب من اعتدى على نفس بغير حق... وقرر القرآن: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا] {المائدة:32}. وروى مسلم والترمذي والنسائي قال صلى الله عليه وسلم:«لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» وفي سبيل المحافظة على الحياة شرع الإسلام في قتل العمد القصاص مع ترغيبه في العفو والصلح:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى] {البقرة:178}. [وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:179}.

ولا يهدر حق الحياة إلا في ثلاث حالات: روى البخاري ومسلم:«لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة».

ولا يجوز للإنسان أن يفرِّط في حياته؟ لأن حياته ليست ملكاً له فهو لم يخلق نفسه، ولا عضواً من أعضائه ولا خلية من خلاياه، فلا يجوز له أن يعتدي على نفسه أو أن يتخلص منها قال تعالى:[ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا] {النساء:29}.

ولقد أنذر الرسول صلى الله عليه وسلم من يقدم على هذه الجريمة البشعة ـ جريمة الانتحار ـ باستحقاق غضب الله عزَّ وجل وحرمانه من رحمته، روى البخاري ومسلم قال صلى الله عليه وسلم:«كان فيمن قبلكم رجلٌ به جرح، فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله: بادرني عبدي بنفسه، فحرَّمت عليه الجنة».

إن تمام الحرية قد يكون بالمنع أحياناً، فالمريض حين يمنع من الطعام الذي يضره إنما تحد حريته في الطعام مؤقتاً لتسلم له بعد ذلك حريته في تناول ما يشاء من الأغذية، والمحرم حين يعاقبه إنما تحد حريته مؤقتاً، ليعرف كيف يستعمل حريته في إطار كريمٍ لا يؤذي نفسه ولا يؤذي الآخرين.

ثم إن الإنسان لا يعيش وحده، وإنما يعيش جزءاً من مجتمع متماسك، يؤذي كله ما يؤذي بعضه.

وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً من أروع الأمثلة بقوم كانوا في سفينة، وكان بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها، وكان الذين في أسفلها، يأخذون الماء ممن فوقهم، فقالوا: لماذا لا نخرق في نصيبنا خرقاً نأخذ منه الماء من البحر؟ قال عليه الصلاة والسلام: «فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً» إنه مثل كريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع فيه الحد الفاصل بين الحرية الشخصية التي لا تؤذي أحداً وبين الحرية ا لتي تؤذي المجتمع وتعرضه للانهيار إذا أطلقت يدُ صاحبها فيها كما يشاء.

وأما أنها العبودية فلأن تمام الحرية هو أن لا يستعبدك أحد يساويك في الإنسانية.

وحين تستولي على الإنسان عادة الانطلاق وراء كل لذة والانفلاتٍ من كل قيد، يكون قد استعبدته اللذة على أوسع مدى، وأصبح أسيرها يجري في الحياة التي تنقلب إلى عبوديته لأهون ما في الحياة من قيمة ومعنى؟

لئن كانت قيمة الإنسان بمقدار ما ينال من لذائذه، فإن الحيوان أكثر منه قيمة وأعلى قدراً، إن الحيوان هو الذي يسعى وراء لذته بلا قيد ولا هدف، ومهما جهد الإنسان أن ينال من لذائذه ما يهوى فإنه ملاقٍ في سبيل ذلك ـ رغم أنفه ـ عوائق تمنعه من بعض ما يريد، فلا يزعم أحد أن الحيوان الذي لا يعوقه دون استكمال لذته عائق، أكثر من الإنسان حرية؟ فهو أكثر منه سعادة!!

وحين ينطلق الإنسان وراء فتاة يهواها، أيستطيع أن يزعم أنه حر من سلطانها؟ ألا تراه أسيرَ اللحظات، رهن الإشارات شارد اللب، أية عبودية أذلُّ من هذه العبودية وهو لا يملك حريته في الحب والكره، والوصل والمنع، والرضا والغضب، والهدوء والاضطراب؟

وحين يسترسل الإنسان في تناول المسكرات يعبُّ منها ما تناله يده، حتى تتلف أعصابه وصحته، وتسلب عقله وكرامته، أيزعم بعد ذلك أنه حر؟ أهناك أبشع من هذه العبودية لشراب قاتل وسموم فتاكة؟

وقل مثل ذلك في التهالك على المال والجاه والتعصب للبلد والعشيرة، إن كل ذلك حين يستولي على قلب الإنسان ونفسه ينقل إلى عبودية ذليلة، وكل هدى يتمكن من النفس حتى تكون له السيطرة على الأعمال والسلوك ينقلب بصاحبه إلى عبودية بشعة يعبر عنها القرآن الكريم: [أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا] {الفرقان:43}. إن الهوى عند أمثال هؤلاء له خصائص الألوهية في نفوس المؤمنين أليس الإله الذي يعبد ويطاع ويخشى ويرتجى؟ وأليس أصحاب الأهواء والشهواتِ قد خضعوا لأهوائهم وأطاعوها إن الحرية الحقة أن نسيطر على أهوائنا ونوازعنا إن الحرية الحقة أن لا يستعبدنا هوىً ولا تستذلنا شهوة. بهذا المعنى كان المؤمنون أحراراً لا تحد حريتهم بحدود ولا قيود، إن الدين حرر نفوسهم من المطامع والأهواء، والشهوات، وربط نفوسهم بالله خالق الكون والحياة، وقيد إرادته بإرادته وحده.

لقد انقطع هؤلاء بعبوديتهم لله عن كل خضوع لغير الله، فإذا هم في أنفسهم سادة، وفي حقيقتهم أحرار، وفي قلوبهم أغنياء، وذلك هو التحرر العظيم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول فيما يرويه البخاري ومسلم:«ليس الغنى عن كثرة العَرَض، إنما الغنى غنى النفس» وهذا الحر هو الذي يقول عنه الإمام الجنيد ـ رحمه الله تعالى ـ: الحر من خَلَع عن نَفْسِه أمارة الشهوات، ومزَّق سُلطتها بسيوف المُخَالفة كل ممزَّق.

أتمنى على الزمان محالاً أن ترى مقلتاي طلعة حرِّ

وبهذا المعنى للحرية نفهم قول الشيخ االكبير أحمد بن خضرويه:«في الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية».

إن أوسع الناس حرية أشدهم لله عبودية، هؤلاء لا تستعبدهم غانية، ولا تتحكم فيهم شهوة، ولا تستذلهم مال، ولا يتملكهم خوف ولا هلع، حررتهم عبادة الله من خوف ما عداه.[أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63) لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ(64) ]. {يونس}.

نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشر 18/12/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين