نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة(23)

 

الحكم بغير ما أنزل الله (3)

الانتخابات النيابية

أقول: مَن سعى لإقامة انتخابات نيابية من حيث هي وسيلة من وسائل تطبيق الحكم بما أنزل الله في بلدٍ أكثرُ أهله مسلمون ولا يرضَون ـ في مآل الأمر ـ عن حكم الإسلام بديلا فهذا مأجور، وقد وهِم قوم ظنوا أن هذا يدخل في مسألة الرضا بغير حكم الله جل وعلا. 

بل هذا يدخل فيما ذكره ابن تيمية رحمه الله مما نقلته عنه قريبا. 

تأملْ قوله رحمه الله:"كما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفارا، ولم يكن يمكنه أن يفعل بهم كلَّ ما يعرفه من دين الإسلام". 

وتأمل قوله رحمه الله: "النجاشي وإن كان ملِكَ النصارى فإنه لم يطعْه قومُه في الدخول في الإسلام، وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها، لعجزه عن ذلك، ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك ما يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها". 

ـ قد يقول قائل: ما ذكره ابن تيمية هو في حال دعوة الكفار الأصليين وعدم قدرة الحاكم على تطبيق أحكام الله تعالى حيث إن معظم القوم لم يدخلوا في الدين الحق، وليس في حالِ أناسٍ يعيشون في دولة مسلمة وأغلبهم من أبناء المسلمين. 

أقول: القوم الذين لم يدخلوا في الدين الحق والقوم الذين يعيشون في دولة مسلمة وأغلبهم من أبناء المسلمين ولا يرضون بحكم الله ورسوله كلاهما بحاجة إلى دعوتهم للدخول في الإيمان، قال الله جل وعلا {يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا}. 

ولفهم كلام الشيخ رحمه الله وما يرمي إليه لا بد من التأمل لاقتناص ما في الكلام من إيماء إلى علة الحكم، فإذا قرأنا كلامه بدقة وجدناه يشير إلى العلة فيما قرر من أحكام: 

فأما في مسألة تكفير أو عدم تكفير من لم يحكم بما أنزل الله فقد أشار إلى العلة بقوله في الصنف الأول منهما "مَن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر"، وقال في الصنف الثاني منهما "من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة"، فالسبب في عدم حكمه على الصنف الثاني بالكفر هو أن هذا الحاكم بغير ما أنزل الله لم يكن مستحلا لذلك ولم يكن فعله إلا من باب المعصية واتباع هوى النفس. 

وأما في مسألة عدم التكفير وعدمِ المعصية أصلا فإنه يشير إلى العلة بقوله :"واتقى الله ما استطاع"، وبقوله :"ولم يكن يمكنه أن يفعل بهم كلَّ ما يعرفه من دين الإسلام"، وبقوله "وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها، لعجزه عن ذلك"، وبقوله: "وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك"، فحكْمه هنا بعدم الكفر وعدم المعصية هو بسبب العجز وعدم الإمكان. 

ثم إنه يقول: "ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك"، وفي هذا إيماء إلى مراعاة حال معظم القوم، فإنه لا يمكن حملهم على العمل بما لا يؤمنون به. 

أقول: وهل المجلس النيابي المنتخب من القوم إلا من هذا الباب؟!. 

وأخيرا فإنه يقول "النجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها". 

فمناط الأحكام التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله في عدم تكفير من لا يحكم بين الناس بما أنزل الله هو عدم الاستحلال، وفي عدم الحكم بالمعصية هو عدم الإمكان، ولو كان قد ذكر أحكاما مجردة عن الإشارة للعلل لكان من الممكن أن يقال لعل مراده أن هذه الأحكام هي لجماعة لم يسبق لهم الدخول في الدين، وأن أحكام من سبق لهم الدخول في الدين مختلفة، ولكن حيث إنه قد ذكر تلك الأحكام مقرونة بالإشارات الدالة على العلل فلا بد من تفهمها وإجراء الأحكام في محالِّ وجود العلل. 

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين