تقوى الله تعالى أفضل العُدة

لا غنى لأي محارب يريد النصر عن إعداد ما يستطيع من قوة مادية، تلك سُنة كونية لا سبيل إلى إنكارها أو التشكيك فيها، فمن تجاهل هذه السُنة، واغتر بنفسه فقد حاد عن الجادة، وضلَّ الطريق الموصل إلى النصر.

ولو كان النصر يهبط على بعض الناس دون تحمل مشاق القتال والإعداد له لكان أحق بذلك رسل الله عليهم السلام، أولئك الذين لم يحرزوا نصراً على أعدائهم إلا مع الاستعداد وبذل كل رخيص وغال في سبيل إنجاح دعواتهم، وهي دعوات الحق المؤيدة من عند الله سبحانه وتعالى.

هذا حق، ولكن من الحق أيضاً أن كل القوى مهما بلغت لا غناء فيها ما لم تؤيدها قوى روحية هي في الحقيقة أقوى من كل عدة، وأمضى من كل سلاح، تلك هي: قوى الإيمان.

فالجندي الذي يتسلح بالإيمان لا يبالي على أي جنبيه يصرع، والمؤمن يقاتل دائماً وهو يتمثل في نفسه قول الله تعالى:[قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ] {التوبة:52}. فهو واثق من الظفر بما يرضي نفسه وإيمانه، أما النصر والغنيمة، وإما الجنة التي وعده الله تعالى بها إن مات شهيداً، وهو يجاهد لإعلاء كلمته سبحانه، وبهذه الثقة يهون عنده كل بذل، بل هو يستعذب كل ما يلقى من مكاره.

ولقد كان أسلافنا الأوائل يحاربون بالإيمان وبالسلاح، وكان إيمانهم – دائماً – أقوى من أسلحتهم، وأشد على أعدائهم من عددهم وعُددهم، ولذلك انتصروا في كل معركة ثبت فيها إيمانهم، وانهزموا في بعض المعارك التي تغلبت فيها النوازع النفسية الدنيوية أو سادهم فيها الاغترار بقواهم المادية.

انهزموا – بادئ ذي بدء - في موقعه حُنين حين غرتهم كثرتهم، وقالوا: لن نهزم اليوم من قلة، وحكى عنهم القرآن ذلك:[ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] {التوبة:25}. فلما عاودتهم الثقة بالله تعالى، وازداد نور الإيمان إشراقاً في نفوسهم، وكروا على أعدائهم غير عابئين بما يلقون منهم أعانهم الله تعالى، ونصرهم على أعدائهم مع كثرتهم:[ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {التوبة:26-27}.

وانهزموا يوم أحد حين جذبت الغنائم أعين الرماة منهم، فخرجوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا أماكنهم، فجاءهم المشركون من ورائهم وأعملوا فيهم السيوف والرماح.

وهكذا لو درسنا دراسة واعية كل معركة من معارك الإسلام لوجدنا النصر دائماً مقترناً بمدى إيمان الجيش المحارب، ووجدنا ما حل من هزائم بسبب نزول درجة هذا الإيمان، وربما كانت الأسلحة في المعارك التي انهزموا فيها أكثر وأقوى منها في تلك المعارك التي انتصروا فيها.

ففي حنين كان المسلمون اثنى عشر ألفاً، وفي بدر كانوا زهاء الثلاثمائة.

ومما يروى عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه من وصاياه للمسلمين المحاربين: (أيها الناس: عمل صالح قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم).

وكان سيدنا عمر رضي الله عنه إذا بعث أمراء الجيوش أوصاهم بتقوى الله العظيم ثم قال عند عقد الألوية: بسم الله وعلى عون الله، وامضوا بتأييد من الله، وبلزوم الحق والصبر، ونزهوا الجهاد عن عرض الدنيا، وأبشروا بالرباح في البيع الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم).

وسيدنا عمر يشير بكلمة (الرباح في البيع) إلى قول الله تعالى:[إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:111}.

وقد يكون في الجيش الرجل الصالح يدعو الله تعالى فيتقبل دعوته، فينزل النصر على أوليائه.

روي أن قتيبة بن مسلم الباهلي فاتح السند حين قابل الترك هاله أمرهم، فسأل عن رجل من صلحاء المسلمين وزهادهم هو العالم العامل محمد بن واسع، قائلاً لمن معه: ما يصنع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة جانح على قسية قوسه ينضنض بإصبعه نحو السماء، فقال قتيبة: تلك الأصبع الفاردة أحب إليَّ من مائة ألف سيف شهير، فلما فتح الله عليهم قال لمحمد: ما كنت تصنع؟ قال: كنت آخذ لك بمجامع الطريق...

فالقائد المظفر – وهو من أعظم قواد الإسلام – لما هاله الأمر، لما رأى من كثرة عدوه، وقوة عتاده سأل عن رجل صالح يعتقد أنه مجاب الدعوة، فلما علم أنه بين صفوف الجيش يرفع أصبعه إلى السماء، ويدعو الله تعالى بالنصر سره ذلك.

ولكن ينبغي أن ندرك حكمة هي من أجل حكم الله تعالى، ذلك أن هذا الزاهد العابد لم يكن يدعو الله تعالى بالنصر، وهو قابع في بيته، أو في محرابه كما تفعل عجائز النساء، وإنما كان يدعو وهو في ساحة القتال معه سلاحه وهو منحن على طرف قوسه.

كما أن القائد كان حسن الظن بالله تعالى، قوي الثقة في عونه، خالص الإيمان بنفع الدعاء من المؤمنين الصالحين حتى ليفضل دعوة هذا الرجل الصالح على مائة ألف سيف.

وفي بعض مواقع الروم مع العرب انهزم جيش الروم فلما قدموا على (هرقل) عاد رجالاً من عظماء قومه وسألهم ويحكم، أخبروني ما هؤلاء الذين تقاتلونهم؟ أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى، يعني العرب، قال فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن، قال: ويلكم فما بالكم تهزمون كلما لقيتموهم؟ فسكتوا، فقال شيخ منهم: أنا أخبرك أيها الملك من أين تؤتون، قال: أخبرني، قال: إذا حملنا عليهم صبروا، وإذا حملوا علينا صدقوا، ونحمل عليهم فنكذب، و يحملون علينا فلا نصبر، قال. ويلكم فما بالكم كما تصفون، وهم كما تزعمون قال الشيخ: ما أراك إلا وقد علمت من أين هذا ؟ قال: من أين هو؟ قال: لأن القوم يصومون بالنهار، ويقومون بالليل، و يوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يظلمون أحداً، و يتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغضب ونظلم، ونأمر بما يسخط الله، وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض، قال صدقتني.

ومن أجمع الرسائل التي نبهت إلى ضرورة اعتصام الجيش بالإيمان ما كتبه سيدنا عمر ابن الخطاب إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: (أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لهم بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا)

وهي وصية جامعة من سيدنا عمر رضي الله عنه أجابت عن كثير مما يهجس في النفوس، ومن أهم ما فيها أنه لا ينبغي للمحاربين أن يتوهموا أن الله تعالى لن يسلط عليهم من هم شر منهم، وأن الجيشين إذا تساويا في البعد عن الله تعالى كان الفضل للقوة.

ومن أولى ثمرات الإيمان في المعارك أن كل جندي من هؤلاء المحاربين ما دام لا يبغي بقتاله إلا رضا الله تعالى ومحبته فإنه ينكر ذاته، ويستوي عنده الموت والحياة، بل ربما كان الاستشهاد أحب إليه.

والأمثلة في إنكار الذات لا تحصى بين جنود الإسلام الذين خاضوا المعارك ضد أعداء الله تعالى، ولعل من أروعها قصة (صاحب النقب) ذلك أنه لما حاصر مسلمة ابن عبد الملك بعض الحصون المنيعة في (أرمنية) ندب الناس إلى أن ينقبوا فيه نقباً ولكنهم تباطئوا، فتقدم رجل من عرض الجيش، و غامر بنفسه، وأحدث في الحصن نقباً فكتب الله النصر للمسلمين، ثم إن مسلمة نادى في الجيش: أين صاحب النقب، فما جاءه أحد، فنادى: إني قد أمرت الآذن أن يدخله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء، فجاء رجل فقال للحاجب: استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فإني معلمه، فأخبره فأذن له، فقال الرجل للقائد: إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثاً: ألا تسودوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه من هو، قال مسلمة: فذلك له، قال: أنا هو، فكان مسلمة بعد ذلك لا يصلي صلاة إلا دعا الله تعالى قائلاً: (اللهم اجعلني مع صاحب النقب).

بهذه الروح العالية، وبهذا التفاني في ذات الله تعالى حارب أسلافنا فانتصروا على أعدائهم.

ولم تكن قوة العدد، ولا كثرة العُدد لترهبهم فإن الشعار الأسمى الذي كان يردده كل واحد منهم ما قاله الشاعر:

ولست أبالي حين أقتل مسلما=على أي جنب كان في الله مصرعي

والقرآن الكريم يؤكد والمسلمون كلهم يؤمنون بهذا كل الإيمان:[ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {الأنفال:10}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الأزهر، السنة الأربعون، رمضان 1388 - الجزء 9

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين