عدم الجِدِّيَّة ... مرضٌ جِدِّيٌّ خطير

إن من أبرز أمراضنا الاجتماعية اليوم - إن لم يكن أبرزها على الإطلاق - مرض عدم الجدية ...عدم القصد التام والرغبة الملحّة الصادقة في طلب الشيء والوصول إليه، وهو داء عضال، ومرض لا تنفع معه الأمصال، وسِكِّين تقطع الشرايين والأوصال . 

يؤخر ولا يقدم ... ويخفض ولا يرفع ... ويضر ولا ينفع ...

عدم الجدية داء ينخر في جسد المجتمعات الإسلامية؛ فيسلمها الى الإخفاق، فلا تستطيع بعده الانفكاك منها ولا الانعتاق . 

ويتجلى عدم الجدية في كل مفصل من مفاصل حياتنا ، في أهدافنا وغاياتنا ... في دراساتنا وأبحاثنا ... في عداواتنا وصداقاتنا ... في ولائنا وبرائنا ... في حبنا وبغضنا ... في قربنا وبعدنا ... حتى في دعائنا ربنا ...ندعو ربنا لكن بقلوب لاهية، وعقول ساهية، وعزائم فاترات واهية ... نرجو الجنة ولا نعمل لها ... 

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها * إن السفينة لا تجري على اليبس 

لقد قال عليه الصلاة والسلام ذات يوم لأصحابه الكرام : ألا إن سلعة الله غالية ( رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب) ... تحتاج ثمناً عالياً ومهراً غالياً ... ومن يخطب الحسناء لم يُغلها المهر ...

فهي تحتاج أناساً جادّين ... صادقين ...غير متهاونين ... غير متلاعبين ... تماماً كما يكتب على غلاف الإعلانات البشرية ( للجادّين فقط ) ... وكذلك الجنة ... طريق واحد يؤدي إليها وهو الجدية ... الصدق ...لذا تعجب رسولنا عليه الصلاة والسلام - فيما رواه الإمامان أحمد والبيهقي- من غير الجادين في طلب الجنة والتوقي من النار؛ فقال : ما رأيت كالجنة نام طالبها وما رأيت كالنار نام هاربها .. أين الجدية ...إنْ كنت جاداً فهَلُمَّ... 

لا تَقْطَعَنْ ذَنَبَ الأَفْعَى وتُرْسِلَها ** إِنْ كنتَ شَهْماً فأَلْحِقْ رَأْسَها الذَّنَبا 

عليك بالجدية ... فهي الطريق المتعينة لنيل المآرب وتحصيل الغايات ...

في غزوة بدر خطب النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه يحثهم على القتال، فقال: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض أُعدّت للمتقين»، فقال عمير بن الحمام الأنصاري : «بخ بخ»، فسأله النبي محمد: «لم تبخبخ؟»، فقال: «أرجو أن أكون من أهلها»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «فإنك من أهلها»، فأخرج عمير من جعبة سهامه بضع تمرات، وأخذ يأكل، ثم قال لنفسه: «لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة»، فقام ورمى ما كان معه من تمر، وقاتل حتى قُتل، فكان أول قتيل من الأنصار.

وفي رواية قال ذلك بعد أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ " . 

وهنا بيت القصيد ( مقبلاً غير مدبر) ... لا يلتفت ... لا ينشغل ... لا يتساهل ... لا يتهاون...

وتلكم هي الجدية ... ألا تلتفت إلى المغريات ... ألا تغرى بالملهيات ... ألا تلتهي بالشهوات ... 

الجدية ألا تحفَل ببُنيّات الطريق ... ألا تلتفت يمين أو يسار .. ولا وراء أو خلْف ...

يقولون : إن الغزال أسرع من الفهد، ولكن الفهد يصيد الغزال غالباً ... ما السبب ؟ قال : لأن الغزال يلتفت وراءه؛ ليرى أين وصل الفهد منه .. بينما الفهد ينظر أمامه، وقد صب اهتمامه على طريدته .

إنها الجدية لا غير أيها السادة ... التي أمرنا الله أن نحصلها ونتعلمها ونجدها عند الصادقين فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة 119]، وقد قال الطغرائي في (لامية العجم) التي أنصح كل أب وأم أن يحفّظوها أولادهم ... في آخر بيت من القصيدة : 

قد هيؤوك لأمر لو فطنت له * فاربَأْ بنفسك أن ترعى مع الهمل 

غفر الله لي ولكم ... ونفعنا بما قلنا ونقول ... إنه أكرم مسؤول وأفضل مأمول .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين