مقال عن الموت

?قالوا: حدِّثنا عن الموت مذكِّرا به واعظا، مرقِّقا قلوبنا ومليِّنا لها تليينا، فقد تحولت فظَّةً غليظةً وهي قاسية عاتية.

قلت: لقد حالفتكم السعادة موفَّقين ملهَمين إذ رغبتم في الاستفسار عن الموت والاعتبار به، فلا يرغَب فيه إلا السعداء والموفقون، وما أنا بِدونِكم افتقارا إلى ذكر مصرعي وهاذم اللذات، يا ويحَ غفلاتنا وسكراتنا! نكره البلى والردى مشمئزين منه نافرين، ويعجبنا ريح الحياة وطيبها مغرمين بها مفتونين، نسينا الموت فيما نسينا كأنا لا نرى أحدا يموت، والموت أكبر خطر داهم، على كل ابن أنثى رقيب، مرتصدا للنفوس، وهو مورد لا محالة دونه مر مذاقه رنق مشربه، نغيب ونؤوب، وسنغيب ثم لا نؤوب، خُلقنا من تراب، وصائرون غدا إلى تراب.

?وقلت: إننا في ملاهينا وأمانينا وأحلامنا وأباطيلنا، والموت منا مقترب، مسرعا نحونا في سير حثيث، نهرب منه مولِّين ناكِصين، غير مترقبيه ولا له مستعدين، وقد كان الصالحون قبلنا مع ورعهم وتقواهم خائفين من حتفهم ورحيلهم عن هذه الدار، قيل لبشر الحافي وقد احتضر: كأنك يا أبا نصر تحب الحياة؟ فقال: القدوم على الله عز وجل شديد، وكان سفيان الثوري إذا سافر بعض أصحابه قال لهم: إذا وجدتم الموت فاشتروه لي، فلما قربت وفاته قال: كنا نتمناه فإذا هو شديد.

?قالوا: زدنا حديثا عنه بما ينفعنا ويردنا إلى رشدنا ويوقظنا من سباتنا.

قلت: الحديث عن الموت ذو شجون، وألخصه لكم في أربع نقاط:

?الأولى: أن الموت فَضَح الدنيا وهَتَك سترها وكشف عُوارَها، وحسْبها عيبا كونها دارا للمنية، ناعية إلينا سكانها، نلتمس فيها البقاء، وطوله لنا معذِّب ومذيب، أسقام وأمراض، محن وفتن، ثم موت وقبر، ثم حساب وكتاب، ونيران تلتهب، ما نلنا من الدنيا إلا وقد نلنا من الهم والغم والنصب والتعب، وكيف يلتذ الإنسان بهذه الدار ونعمها وهو نفسه مطلوب، أين آباؤنا وآباء آبائنا؟ لم يسلم منهم أحد، نَغَّص الحمام لذة كل عيش، فكم لنا فيها من أيام لينة نعمنا بها، أيام لنا فيها غصن الشباب رطيب، وقد تقضت تلك الأيام، وسنقاسي كرب الموت مقاساة تنسي تلك النعم واللذائذ، دخل الحسن البصري على مريض يعوده وهو في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم، فوالله لقد رأيت اليوم مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.

?والثانية :أن الموت تنبيه وإيقاظ، ومن عرف الموت توقَّى وحذر، واحترس وارتقب، وزال عنه الصبا والعجب واللهو واللعب، إن الموت لأهل الدنيا لمؤدب لو كان ينجع فيهم التأديب، ولو فهم الناس عنه قوله لعراهم منه تفجع ونحيب، لقد لعبنا وجدَّ الموت في طلبنا، أوليس في الموت شغل عن الغي والهوى؟ أمع الموت يطيب عيش؟ هيهات! ليس معه يطيب، اعجبوا من الخلق وهم في تسكعاتهم ومتاهاتهم، وللحادثات فيهم دبيب وللمنايا بهم بطش شديد، ولنعتبر بالزمان يتقلب، فصفوه يكدر والشباب يشيب، ننافس في الدنيا ونعيمها وقد حذرتناها مدلهماتها، كأنا برهوطنا يحملوننا إلى حفر يحثى علينا فيها التراب ويهال الكثيب، فإلى متى وإلى متى يدوم لنا طلوع الشمس وغروبها واختلاف الليل والنهار؟ يا ليتنا انتبهنا بهلاك غيرنا، واتعظنا بالجنائز والمحمولين على الآلة الحدباء، قال الأوزاعي: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، وكان أبو بكر بن عياش يقول: لو سقط من أحدهم درهم لظل يومه يقول: إنا لله، ذهب درهمي، وهو يذهب عمره ولا يقول: ذهب عمري، وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات ويحفظون الساعات ويلازمونها بالطاعات.

?والثالثة: أن الموت رحمة للمؤمنين المنافسين في ادخار الباقيات الصالحات، الخائفين يوم القيامة، يوم تكشف فيه المخبآت، والموت انتقال بعباد الله الصالحين إلى قرباه حيث يصفو عيشهم ويطيب، طوبى لعبد توجهه وإخباته لمولاه، وأنعم بإنسان منيب القلب أواه، وحبذا من أحسن، فعاقبة الإحسان إحسان، وخير زاد الفتى للقبر عبادته وتقواه، فيا عجبا للنار نام راهبها، ويا عجبا لجنة الخلد نام راغبها، ويا عجبا لدار النعيم نام طالبها، قال أحمد الجريري: كنت عند الجنيد في حال نزعه وكان يوم الجمعة وهو يقرأ القرآن فختم، فقلت: في هذه الحالة يا أبا القاسم! فقال: ومن أولى مني بذلك وها هي صحيفتي تطوى.

?والرابعة: أن الموت تسلية للمؤمنين، فلا يحزنهم تقلب أعدائهم في البلاد، فكم رأينا من ملوك سادة رجع الدهر عليهم فانقلب، تفانوا فلم يبق منهم غريب، أضحوا للمنون وسيقة من رائح عجل وآخر مغتدي، وصاروا إلى حفر تواريهم وتضمهم ضما، نالتهم المنايا ولو أنهم في شاهق عليهم الحصون، بينما الجبابرة أحياء أقوياء إذ دعاهم الموت فأجابوا ذالين خاضعين، تاركين دورهم وقصورهم خرابا يبابا، والمنايا لا تبالي من أتت، أين الملوك ذوو العساكر والمنابر والقصور والدساكر، وأصحاب الغاديات الرائحات من الجياد الصافنات؟ هم بين أطباق الثرى، وهم أهل الديار الخاويات، ومحاوي الرفات، أين القرون الماضية؟ خلت عنهم المنازل، وتشتتت عنهم الجموع، ولم يبق منهم إلا العظام البالية.

?قالوا: لقد ملأت قلوبنا خوفا وذعرا.

قلت: وحق لبني آدم أن يخافوا الموت، وإياكم أن تأمنوا الزمان فمازال على الناس منقلبا، وإياكم وأن تكونوا لما تهوَوْن راكبين، وبمنزلة تقتل سكانها وتستلب وتهان مستأنسين، لا يغرنكم بالله الغرور، واقرؤوا كتاب الله وتدبروا آياته التي تؤكد أن كل نفس ستوافي سعيها ولها ميقات يوم قد وجب، قال أبو سليمان الداراني: قلت لأم هارون العابدة: أتحبين أن تموتي؟ قالت: لا، قلت: ولم؟ قالت: والله لو عصيت مخلوقا لخفت لقاءه فكيف بالخالق جلَّ جلاله.

?قالوا: فأوصنا.

قلت: أوصيكم ونفسي بالاستعداد للموت ومقاومة الأهواء، لكل ما اجترمتم متذكرين، وإياكم وأن يغلبكم الهوى، وأن تفتُروا أو تتنكبوا عن إصلاح نفوسكم وصرفها إلى العبادة والطاعة والزهد والتقوى.

عن أبي حازم: انظر كل عمل كرهت الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت. 

وقال إبراهيم التيمي: مثلت لنفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها، ثم قلت لنفسي: ما تريدين؟ قالت: أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا، قلت: فأنت في الأمنية فاعملي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين