لماذا نحب دون كيشوت؟

"دون كيشوت" شخصية خيالية تجاوزت الحدود الجغرافية واللغوية بين البشر .

شخصية ساذجة تعيش في غير زمانها ، تخوض معارك غريبة ضد الغبار وضد طواحين الهواء ، تصرفاتها تضر من حيث تريد أن تنفع .

شخصية كهذه لماذا أحببناها ، وتناقلتها الأجيال عبر القرون.؟!

أحببناها لأنها تحمل سمات الإنسانية والفروسية والنجدة والنخوة والشهامة ، تلك السمات النبيلة التي تتوق إليها النفوس السوية ، حتي وإن كان صاحبها بهذا الكم من السذاجة .

ولماذا حبسنا الانفاس وتابعنا بشوق وشغف ذاك الصراع النفسي الذي عاشه "جان فالجان" بطل قصة (البؤساء) لفيكتور هوجو ، لحظة اختياره تقديم نفسه للعدالة لإنقاذ بريء تم اتهامه بجريمة ارتكبها "جان فالجان" مقدماً مبادئه علي مصالحه .

وهل لو كان الكاتب اختار لبطله تغليب مصالحه علي مبادئه ، هل كانت قصته ستبقي في نفوس الناس وتتناقلها الأجيال .؟

ولماذا أحببنا "قيس بن الملوح" ذاك المجنون بحب "ليلي" .؟!

ولماذا خَلَّدَ الادب العربي ذِكْر قبيلة "عُذْرَة" وانتسب لها الحب العُذْري ورددت الأجيال قول شهيد الغرام "عروة بن حزام" وهو يصف أبناء قبيلته "عُذْرَة" :( نحن من قوم إذا عشقوا ماتوا .) كناية عن الحب العفيف .

عموم البشر ، الصالح منهم والطالح ، تتطلع أرواحهم للمُثُل العليا والفضائل ، وتحب أن تعيش بخيالها في المثاليات ، (طالما هي حبر علي ورق ، أو خيال في إبداع فنان) .

فإذا انتقلنا إلي الواقع ، حيث سطوة الغرائز ونداءات الجسد ، في الصراع اليومي الذي يخوضه الإنسان بين المصالح والمبادئ ، بين المنفعة والواجب ، بين الحلال والحرام .

يتخلي كثير من الناس عن القيم والمثل التي أحبها (ومازال يحبها في الخيال) .

بينما لو تحولت تلك الشخصيات التي أحبوها في الخيال وعلي الورق إلي شخصيات واقعية في زميل أو جار أو قريب ، لناصبوه العداء ، وفي أحسن تقدير سيصفونه بالسذاجة والتفاهة .

وتتحول قيم ومُثُل النُبْل والشجاعة إلي تهور وسذاجة ، والغدر والخيانة إلي مهارة وكياسة .!

وينقلنا "فيكتور هوجو" إلي نموذج عايشناه في مجتمعاتنا العربية خلال السنوات القليلة الماضية ومازلنا نعيشه.

في روايته ( ملائكة بين اللهب ) والتي يصور فيها أحداث الثورة الفرنسية بعد أربعة أعوام من بدايتها ، يصور مشهد جماهير الشعب التي صفقت للثورة والثوار قبل أربع سنوات ، ثم ذات الجماهير وهي تصفق للقاضي الذي حكم علي الثوار بالإعدام ، ووقوفهم في تزاحم للنظر بشماتة إلي مواكب الثوار السائرة نحو المقصلة .

صورة مكررة نعيشها في صراع البشر بين مصالحهم ومبادئهم ، يعشقون المبادئ والمُثُل العليا مادامت لم تمس مصالحهم ، فإن تعارضتا في الظاهر ، تحول أصحاب القيم والمُثُل إلي عبءٍ نفسي يُذَكِر هؤلاء بضعفهم ، ويتحول حبهم علي الورق إلي كُرهٍ في الواقع .

هذا الصراع بين المبادئ والمثل وبين المصالح والغرائز لم ينجح فيه من البشر عبر العصور سوي القليل ، ولكنها القلة التي لا تحلو الحياة بدونهم ، وهم من يجعل للحياة معني وقيمة ، هؤلاء كما وصفهم الأديب الراحل "مصطفى صادق الرافعي" : ( إن من الناس من يختارهم الله فيكونون قمح هذه الإنسانية : يَنبتون ويُحصَدون ويُطحَنون ويُعجَنون ويُخبَزون، ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائلها. )

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين