تعدد الزوجات (7) والأخيرة

محاولات منع التعدد أو تقييده

مناقشة للمنع

نريد أن نذكر أمراً واحداً قبل الدخول في مناقشة هذه المحاولات وهي أنه لا توجد في العالم الإسلامي الآن مشكلة تعرف بمشكلة تعدد الزوجات، فالإحصاءات التي تنشر عن الزواج والطلاق في البلاد العربية الإسلامية تدل على أن نسبة المتزوجين بأكثر من واحدة نسبة ضئيلة جداً لا تكاد تبلغ الواحد بالألف.

والسبب في ذلك واضح، وهو تطور الحياة الاجتماعية، وارتفاع مستوى المعيشة، وازدياد نفقات الأولاد في معيشتهم وتعليمهم والعناية بصحتهم، يضاف إلى ذلك أن الزوج لم يعد متفرغاً - كما كان من قبل - لشئون الأسرة ومشكلاتها، فهو مع زوجة واحدة وأولاده منها لا يكاد يتفرغ تفرغاً كافياً للإشـراف على شؤونهم والقيام بواجباتهم، فكيف يضيف إلى هذا أعباء جديدة ومشاكل جديدة؟

ثم إن التعدد كان يقع غالباً في الريف، في الأسر الغنية رجاء أن يكون لرب الأسرة أولاد يكفون لزراعة أراضيه والقيام على شؤونها، وقد كان الأولاد يرضـون أن يقيموا في الريف مع أبيهم على جهلهم أو على شيء قليل من العلم.

أما الآن فقد انتشر التعليم، ولم يعـد ابن القرية الذكي الطموح ليرضى أن يظـل مزارعاً طيلة حياته مهما غلّت له أرضه من غـلات، بل يريد أن يتعـلم ويدخل الجامعة ويتوظف ويقيم في المدينة، ولهذا كثرت هجرة أبناء القرى إلى المدن هجرة تقلق بال الباحثين الاجتماعيين.

ويضاف إلى هذا قوانين الإصلاح الزراعي التي أخذت تحدد الملكية الزراعية بما لا يترك في أيدي المالكين أراضي شاسعة كما كان الأمر من قبل.

كل هذه العوامل وغيرها - من انتشار الوعي الاجتماعي والصحي والحضاري - أدى إلى انخفاض نسبة تعـدد الزوجات، وسينخفض كلما ازدادت هذه العوامل رسوخاً في مجتمعنا، فليس التعدد عندنا الآن من الأهمية بالمكان الذي تثار من أجله كل هذه الضجة، اللهم إلا من راغبين في الشهرة بأنهم تقدميون، وأنهم متحررون. وهي لا تكلفهم إلا بضع كلمات في مقالة، أو سطراً واحداً في قانون يصدرونه حين يكونون في الحكم.

ومن أجل هذا لا نرى فيما فعلته تونس والباكستان وتحاول أن تفعله بعض البلدان الأخرى إلا مجـرد استرضاء للغربيين؛ إثباتاً لتحـرر هؤلاء المسؤولين من سيطرة عقائدهم وتراثهم عليهم، وهو في الوقت ذاته دليل تهافت الشخصية، واحتـقار الذات، وتـرامٍ على أقدام المتعصبين الغربيين لاستجلاب عطفهم وثنائهم وثنـاء صحفهم ومبشريهم ومستشرقيهم على حساب أمتنا وكرامتنا وديننا.

إنني لست أخشى من انتشار تعدد الزوجات أو بقـاء نسبته كما هي ، بقـدر ما أخشى انعدامه في مجتمعنا الإسلامي ، ذلك أن من الملاحظ إعراض الشـباب عن الزواج ، ورغبة المتزوجين في عدم الإكثار من النسل ، وهذا يؤدي في المستقبل إلى عدم تكاثرنا بالنسبة للأمم الأخرى ، وبخاصة للأمم المجاورة لنا ، وفيها أمم تناصبنا العداء ، وتزيدنا أضعـافاً مضاعفة في السكان أو دولة - كإسرائيل - تحـاول بكل جهدها أن تزيد من عدد سكانها بإغراء اليهود على الهجرة إليها وتخشى كل الخشية من زيادة سـكان البلاد العربية المجاورة لها وبخاصة مصر التي بلغ تعـداد سكانها خمسين مليوناً ، وهذا ما يرعب إسرائيل والاستعمار .

فعوضاً عن التفكير في تشجيع الزواج وتكثير النسل بأية طريقة مشروعة، نحاول أن نعمل بأيدينا على إنقاص عددنا، مأخوذين بأكثر النظريات الخاطئة التي يشيعها الغربيون - عن سوء نية أو حسن نية - هي من فوائد تحـديد النسل، ومضار التعدد، والخطر الذي سيَدهم العالم يوماً ما نتيجة تكاثر السـكان، وهو خطـر المجاعة.

إن الغربيين قد يقولون هذا صادقين بالنسبة إلى رقعة أرضهم، وعـدد سكانهم، ولكننا نحن العرب، نحن المسلمين، نسكن مساحات شاسعة من الأرض، لم نستثمر من خيراتها حتى الآن إلا الأقل الأقل مما تحتويه، فلو استـثمر استثماراً علمياً فنياً لاتسعت لأضعاف عدد سكانها الآن.. فالتهديد بخطر المجاعة من تكاثر السـكان لست أدري بماذا أصفه - على قلة خبرتي في هذا الموضوع - ولكني أحس إحساساً عميقاً بأن مثل هذا الكلام لا ينبغي أن يقال لنا، وأن جهات استعمارية أو صهيونية تروجه، ولا ينبغي لنـا أن نصغي اليه قبل أن نستنفذ كل إمكانيات أرضنا الطيبة الخيرة الغنية ...

إننا في سوريا مثلاً نشكو من قلة السكان بالنسبة لأراضينا الواسعة الشاسعة التي لم تستثمر بعد، فهل يجوز التفكير بمنع تعـدد الزوجات، والتعدد يمدنا حتماً بأعداد من الأيدي العاملة لا يمنحنا إياها نظام الزوجة الواحدة!

وأعتقد أن ما يقال عن بلادنا في سوريا يقال عن كثير من بلادنا في غيرها، فقـد أعلن مدير البنك الدولي أن ثروات العراق تكفي لأن يعيش فيها سبعون مليوناً في مستوى من العيش لا يقل عن أمريكا، هذا مع العلم بأن عدد سكان العراق حالياً سبعة ملايين فقط.

فالتسرع في سَنِّ التشريعات التي تؤدي إلى أضرار بالغة في مستقبل الأمة عددياً أو عسكرياً أو وطنياً أو غير ذلك، تسَـرُّع هو في مصلحة خصـومنا الذين لهـم مؤسسات علمية خفية منبثة بيننا لا يشعر بها كثير من المسؤولين، فليتقوا الله فإن المؤامرات كثيرة، والأعداء أيقاظ، والحيل واسعة، والخداع محكم، والمتنـبهين قليلون.

مناقشة التقييد:

ليس هنالك قيود يمكن أن توضع لتعـدد الزوجات وهي مستقاة من الشريعة إلا قيدين اثنين:

القيد الأول: العدل بين الزوجات، وهذا- كما رأينا - شرط صريح في القرآن لإباحة التعدد، لا لصحته، بإجماع العلماء، وقد مر بنا قول الاستاذ الإمام محمد عبده في ذلك.

فلو جعل شرطاً قانونياً لسماح القاضي بالزواج بامرأة ثانية لمن عنده زوجة واحدة، كيف يمكن للقاضي أن يتحقق من ذلك؟

هل للعدل أمارات سابقة؟ هل يمكن أن يثبت ذلك بالشهادة؟ هل يكتفي فيه بيمين الزوج أنه سيعدل؟ هل هو مما تجري فيه الفراسة؟ وهل يكون القضاء بالفراسة؟! هل يسأل القاضي أقرباء الزوج وأصدقاءه عن خلق الزوج في العدالة وعدمـها؟ وهل يمكن أن يحكم القاضي بشهادتهم في ذلك؟ ثم كيف يمكن أن نمنع عقداً لمحظور لم يوجد بعد! ولا سبيل إلى التحقيق من وجوده في المستقبل؟!!

نحن مع الأستاذ الجليل أبي زهرة في أن العدل الذي جعل شرطاً دينـياً لا يمكن أن يجعل شرطاً قانونياً يتوقف عليه السماح بالتعدد أو عدمه.

القيد الثاني: القدرة على الإنفاق على الثانية مع الأولى، والقدرة على الإنفاق على أولاده منهما أو منهن.

وقد قلت: إن هذا الشرط يستفاد ضمناً من قوله تعالى:" ذلك أدنى ألا تعـولوا " على تفسيرها بألا تكثر عيالكم، كما ذهب إلى ذلك الشافعي رحمه الله.

ويستفاد أيضاً منه اشتراط العدالة، فإن الذي لا يستطيع الإنفـاق على زوجتـيه وعلى أولاده منهما لا بد له من أن ينفق على إحداهما دون الأخرى، فتنتفي بذلك العدالة المشروطة ديناً، ولا بد له من أن يهمل الإنفـاق على بعض أولاده وهـذا تفريط يحال بينه وبين أسبابه.

إن هذا الشرط ممكن، ويستطيع القاضي أن يتأكد منه، بالسؤال عن قدرته المالية، ومعرفة دخله وإيراده، فإذا وجـده قادراً على الإنفاق على زوجتيه وأولادهما لم يكن هنالك مانع من السماح له بإجراء هذا العقد.

ونحن في هذا نخالف الأستاذ الجليل أبا زهرة في ادعائه بأنه شـرط لا يمكن التحقق منه كالعدالة، فالواقع أن هنالك فرقاً واضحاً بينهما، ذلك أن العدالة أمر معنوي مغيب لا يعرف إلا عند المعاملة، أما القدرة المالية فهي أمر مادي يمكن أن تعرف حالا ً، ولها أدلة تثبتها بكل سهولة، ودعوى الأستاذ أبي زهـرة بأنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته أنهم تحروا في القدرة على الإنفاق يجاب بأن المعيشة في عصورهم كانت بسيطة، وكانت الأرزاق على الأولاد وغيرهم جارية فلا خوف من الضياع.

ونرى في هذا الشرط منعاً لإساءة استعمال التعدد في بعض حالاته، حين يقدم بعض الناس على التزوج بأكثر من واحدة، لشهوة عارمة، أو رغبة في التفَكُّه أو الانتقام من زوجته الأولى، وهو غير قادر على الإنفاق على البيتين معاً، فتضيع الزوجتان، ويهمل الأولاد، وتتشرد الأسرة.

إن مثل هذه الحالة سفَهٌ محض، وتستطيع الدولة أن تمنعـها دون أن تقف مكتوفة الأيدي، كما تتدخل في أمر كل سفيه فتحدّ من تصرفاته، وتمنع عنه وعن غيره الضرر والأذى.

وبعد هذه المناقشة أرى أن موقف القانون السوري هو أعدل المواقف وأحـكمها وقد وقف في ذلك موقفاً وسطاً بين المانعين، وفي ذلك ما فيه من العـدوان على شريعة الله والتضييق على مصلحة الأمة وبعض الأفراد، وبين المطلقين الذين يمنعون أي قدر منه، وفي هذا ما فيه من فسح المجال لبعض السفهاء لاستعمال هذا الحق في غير موضعه، فتضيع الزوجات والأولاد.

ولست أرى الذهاب إلى أبعد من ذلك في هذا الموضوع، والعناية بالتربية الدينـية وتنمية الوعي الاجتماعي كفيـلان بحسن استعمال هذا الحـق حين يستعمل عند الضرورة، دون إضرار بالمجتمع أو اساءة إلى وحدة الأسرة وتماسكها.

إنني أنا شخصياً ممن لا يفكر في الزواج إلا بزوجة واحدة، وقـد قلت في بعض ما كتبت: " أقـوى الناس على تحمل المتاعب من يتزوج اثنتين، وأسـرع الناس إلى الهلاك من يتزوج ثلاثاً، وأقرب الناس إلى الجنون من يتزوج أربعًا، وليس في إباحة الله لنا ذلك ما يحملنا على التعرض للمتاعب من غير ضرورة ملجئة “.

وشريعة الله حين أباحت التعدد إنما تركت الباب مفتوحاً لمعالجة الضرورات الفردية والاجتماعية، ولم ترغب في ذلك ولم تنفر، لأن طبيعة الإنسان تغني عن الترغيب أو التنفير من ذلك، ففي فطرة كل إنسان أن لا يتحمل طائعاً مختاراً إلا زوجة واحدة، وأن لا يهدأ ولا يستقر إلا بذلك، ولكن التشريع الخالد ما وجـد فيه الناس جميعاً حاجاتهم، وما وجدت فيه الأمم طلِباتها في مختلف ظروفها وأحوالها.

فليس في ترك التعدد مباحاً كما هو في الشريعة ترغيب للناس في ذلك، وهذا هو الواقع المشاهد، ولكن في تضييقه أو منعه حيلولة دون معالجة مشكلات خاصة تجد علاجها في التعدد، ومنع الأمة في ظرف من الظروف الطارئة من حل مشكلة من مشكلاتها التي لا علاج لها إلا بالتعدد، والتشريع الحكيم هـو الذي يترك الباب مفتوحاً لمعالجة المشاكل ولا يوصد الباب دونها.

إذا كانت بعض الأمم تفكر في الاستفادة من نظـام التعـدد عندنا لمعالجة أخطر مشكلاتها الاجتماعية بعد الحـرب، أفلسنا نحن معرَّضين لمثل ما تعرضت له هذه الأمم؟! ألسنا نتهيأ - حكومات وشعوباً - لخوض معارك طاحنة مع إسرائيل، ونحن نعلم أننا لن نخوضها مع إسرائيل وحدها ، وقد لا نخوضها نحن وحدنا ، فالحـرب المقبلة ربما كانت أخطر حروب تخوضها أمتنا في تاريخها الطويل، إنها ستكون أخطر من معاركنا مع التـتار ، ومن معاركنا مع الصليبيين ، ومن معاركنا مع الفـرس والروم ، وأنا لا أشك أن أمتنا بعد هذه الحروب أو في هذه الحـروب ، ستجد في نظام التعدد أكبر عون لها على بقائها صامدة في المعركة ، تمـدها بقوافل المجاهدين عشرات فعشرات ، وتعوض بعد الحرب ما أفنته الحرب من شباب ورجال .. لست أقول هذا خيالا ً، إنني أرى بوادره منذ الآن، وليس من الحكمة أن نضـع أيدينا على أعيننا لئلا نرى الحقائق.

أرى خلل الرماد وميضَ نار ٍ ويوشك أن يكون لها ضِرام ُ

ومن ناحية أخرى نرى إسرائيل تحاول أن تحشر في الأرض المحتلة من فلسطين - على ضيق رقعتها - عشرات الملايين، وهي غير حاسبة لمشـكلة معيـشة هذه الملايين حساباً، مع أن إمكانياتها الزراعية ضيقة، بل كل همها أن تكثر من تعداد سكانها ضاربة بعرض الحائط كل ما يقال عن وجوب تحديد النسل، احتياطاً لمعيشة سكان الأرض، حيث يرى بعض خبراء التغذية أن الأرض ستصبح في يوم ما عاجزة عن تأمين القوت لسكان كوكبنا الأرضي!!! إنها _ وهي ذات الرقعة الضيقة والموارد الزراعية المحدودة _ لا تهتم إلا بحشر أكثر عدد ممكن فيها من يهود العالم لأغراض سياسية عدوانية.

فكيف نستجيز لأنفسنا - نحن سكان البلاد العربية خاصة - أن نخدع بالنظريات التي يروجها علماء من اليهود أنفسهم، حول وجوب تحديد النسل، مع أن أراضيـنا واسعة، تتسع لعشرة أضعاف سكانها الحاليين - حتى مصر التي يقال: إن مشكلة تكاثر السكان فيها يحتم التفكير في منع تعدد الزوجات والأخذ بمبدأ تحديد النسل - إذا استخدمت ثرواتها الطبيعية الظاهرة والدفينة، وحشدت كل طاقات إمكانياتها البشرية والفكرية، وأقيمت الصناعات المختلفة ما بين مدنية وعسكرية.

ومثل ذلك يقال عن باكستان بالنسبة لجارتها الهند التي يبلغ سكانها خمسة أضعاف سكان باكستان أو أكثر، وهي في مشكلات مع الهند لا يؤمن معـها يوماً أن تقع الحرب بينهما، فأية جريمة هذه التي يحاول المسؤولون فيها أن يضعوا عراقيل تؤدي إلى منع تعدد الزوجات بدلاً من أن يفكروا في الوسائل التي تؤدي إلى كثرة سكانها مع رفع مستواهم المعاشي؟ وليس ذلك بمستحيل إذا صدقت العزائـم واستخدم العلم في تنمية الثروة القومية.

وأرى أن أختم هذا البحث بكلمة قيمة للأستاذ العقاد قالها في كتابه " المـرأة في القرآن الكريم ". ص 137.

وحَسْبُ الشريعة أن تقيم الحدود، وتوضح الخطة المثلى بين الاختيار والاضطرار، وأما ما عدا ذلك من التصرف بين الناس، فشأنه شـأن جميع المباحات التي يحسن الناس وضعها في مواضعها، أو يسيئون العمل والفهـم فيها، على حسب أحوال الأمم والمجتمعات من الارتقاء والهبوط، وعلى المعـرفة والجهل، ومن الصـلاح والفساد، ومن الرخاء والشدة، ومن وسائل المعيشة على التعميم.

فالمباحات الاجتماعية والفردية كثيرة تأذن بها الشريعة ، ولكنها لا تأخـذ بأيدي الناس ليحسنوا تناولها والتصرف فيها ، فليس أكثر من الطعام المباح ، وليس أكثر من أضرار الطعام بمن يستبيحونه على غير وجهه ، وبالزيادة أو النقص في مقداره ، وبالخلط بين ما يصلح منه للسليم ، وما يصلح منه للمـريض ، وما يطيب منه في موعد ، ولا يطيب في موعد سواه ، وإنه لمن الشطط على الشرائع - وعلى الناس - أن ننتظر من الشارع حكماً قاطعاً في كل حالة من هذه الحالات ، لأن الضرر من فرضها على من يتولاها بغير بصيرة ، أوخم وأعظم من تركها للتجربة والاختيار .

إن الممنوع من تعدد الزوجات لا حيلة فيه للمجتمع إلا بنقض بناء الزواج، وإهدار حرماته جهرة أو في الخفاء.

أما المباح من تعدد الزوجات، فالمجتمعات موفـورة الحيلة في إصلاح عيوبه، على حسب أحوالها الكثيرة من أدبية ومادية، ومن اعتدال أو اختلال في تكوين أسرها وعائلاتها وسائر طبقاتها.

فالتربية المهذبة كفيلة بالعلاقة الصالحة بين الزوج والزوجة، فلا يحمد الزوجُ نفسُه علاقة بينه وبين امرأته لا تقوم على العطف المتبادل، والمودة الصـريحة، والمعاونة الثابتة في تدبير الأسرة، ولا يتهيأ له جو البيت على المثال الذي يرتضيه مع زوجتين تدعوه إلى الجمع بينهما داعية من دواعي الأثرة، والانقياد للنزوات.

وقد ينشأ لتعدد الزوجات في حالتي الغنى والفقر على السواء:

فالغني يستطيع أن ينفق على بيوت كثيرة، ولكنه لا يستطيع أن يجد غنياً مثله يعطيه بنته، ليجمع بينها وبين ضرة تنازعها، ولو اعتلتها في معيشة أخـرى، وقد يشق عليه أن ينفق على الزوجات الغنيات بما تتطلبه هذه النفقة من السعة والإسراف، وإذا وجد النساء الفقيرات فلعلها حالة لا تحسب إذ ذاك من أحوال الاضطـرار بالنسبة لمن يقبلن عليها من الزوجات.

والفقير قد يحتاج إلى كثرة النسـاء والأبناء لمعاونته على العمل - ولا سيما العمل الزراعي - ولكنه يهاب العالة، ويحجم عما يجهده من تحصيل النفقة والمأوى.

والمجتمع يحق له أن يشترط الكفاية في الزوج لتربية أبنائه، ويتوخى لذلك دستوراً يحافظ على حرية الرجال والنساء، ولا يخل بحقوقهم في التراضي على الزواج حتى اتفقت رغبتهم عليه، وليس من العسير تسويغ ذلك الدستور من جانب المجتمع، لأن الأزواج المقصرين يجنون عليه، ويحملونه تبعات كل كفالة للأبناء، يعجز عنها الآباء والأمهات.

ومن حسنات السماح بتعدد الزوجات عند الضرورة، أن يكون ذريعة من ذرائع المجتمع لدفع غوائل العيلة والفـاقة عند اختلال النسبة العددية بين الجنسين، فإذا كان هذا العارض من العوارض التي تخطر لرجل في علم " ليبون " أنه يستـلزم القوانين لتداركه، فليس افتراضه في الشريعة باطـلاً يقضي عليه بالعبث في جميع الظروف، ويحق للمجتمع أن يرجع إليه في تقدير تلك الظروف، فلا تصـطدم عقائد الدين ودواعي المصلحة بين جيل وجيل " ا هـ.

وأخيراً فإنني أعلن بكل صراحة أنني من أعداء منع تعدد الزوجات تشريعاً وقانوناً، أو وضع العقبات في طريقه، وإن كنت من أنصـار وحـدة الزوجية في حـياتي الشخصية، ولا غرابة في ذلك ولا تناقض، فإن الإنسان العاقل يختار الحياة الأفضل والمشرع الحكيم يختار لأمته القانون الأشمل.

فأنا لا أدعو إلى أن يعدد كل متزوج الآن زوجاته ، ولكنني أدعو لجعل مبدأ التعدد مسموحاً به من غير قيود - ما عدا قيد القدرة على الإنفاق - ليستطيع من تلجـؤه ظروفه الخاصة إلى التعدد ، ولتستطيع الأمـة في حالة الحروب والأزمات التي يقل فيها الرجال ويكثر النساء أن تستفيد من تشريع التعدد بما يسد به نقص الرجال ، وتكفل به حياة النساء ، ويحال بينهن وبين التشرد والتسكع ، وإغواء المتزوجين ، وإغواء غير المتزوجين وبذلك تحفظ كرامتهن ، ويصان المجتمع من كثرة الفواحش وازدياد الأولاد غير الشرعيين - كما يقع الآن تماماً في أوروبا - فقـد أصبحت مشكلة تكاثر الأولاد غير الشرعيين مشكلة اجتماعية وإنسـانية حملت كثيراً من المفكرين عندهم على أن ينادوا بوجوب الاعتـراف بهؤلاء وإلحاقهم بآبائهم، وأن يكون لهم في القانون حقوق الأولاد الشرعيين ... ولو أنهم أباحوا التعدد لما وصلوا إلى هذه الحالة .

انظر الحلقة السادسة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين