رأي في تكوين المجتهد في عصرنا هذا (1)

 

مجلس شورى المجتهدين (1)

 

مقدمة:

إنَّ العديد من المفكرين المسلمين اليوم يتطلَّعون إلى الاجتهاد كعامل مهمٍّ من عوامل النهضة والقوة والتجديد في حياة المسلمين المعاصرة فما هو الاجتهاد؟ 

الاجتهاد مثل الجهاد مشتق من (الجُهد) وهو يعني: بذل الجهد المضني في سبيل اكتشاف الأحكام المبنية على الحقّ والحقيقة مسترشداً بنصوص القرآن الكريم والسُنَّة النبوية الشريفة والقياس والإجماع. ثمَّ العمل على نشر الحقِّ والحقيقة بين النَّاس والدعوة إلى تطبيقهما على الحياة.

ولم ترد لفظة (مجتهد) في القرآن الكريم بل وردت كلمات مثل:

(الراسخون في العلم) في قوله تعالى: [وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ] {آل عمران:7}.

(والذين يستنبطونه) في قوله تعالى: [لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] {النساء:83}.

(أهل الذكر) في قوله تعالى:[ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {النحل:43}.

(خبير) في قوله تعالى: [وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] {فاطر:14}.

(العلماء) في قوله تعالى: [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] {فاطر:28}.

هذا وفي الحديث الشريف: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها).

فالمجتهد إذن هو المجاهد في سبيل الله الذي يحاول جهده أن يحقق الصفات والمؤهلات التي تتضمنها الآيات الكريمة والحديث الشريف. والمجتهد إنسان سري ذكري يجمع بين التقوى والعلم والحكمة والشجاعة، ثم إنه يمتاز باللطف وحسن القيادة. إنه طود شامخ يشار إليه بالبنان ويرجى منه الخير لبني الإنسان.

دور المجتهد في التاريخ الإسلامي:

لقد وهب الله تعالى المسلمين في تاريخهم وفي شتى أقطارهم من المجتهدين من أصبحوا من مفاخر العلم والتقوى في تاريخ الحضارة الإسلامية. فقد كان لهم الفضل في توجيه المسلمين إلى العمل بتعاليم دينهم الحنيف كما أنهم أثروا الفكر الديني الإسلامي بنتاج بحوثهم واستنباطهم.

وللعديد من المجتهدين الفضل في الدفاع عن حوزة الإسلام بدعوتهم المسلمين إلى الجهاد ضد غزو المعتدين كما فعل المجتهدون في العراق حين أعلنوا الجهاد ضدَّ الغزو البريطاني للعراق في الحرب العالمية الأولى وحضروا ساحات القتال. 

ثم إنهم ألهبوا الثورة العراقية سنة 1920 ضد الاحتلال البريطاني تلك الثورة التي أدّت إلى تأسيس الحكم الوطني في العراق. وما يقال عن المجتهدين في العراق يصدق على ما قام به الإمام عبد الحميد بن باديس ورفيقه العلامة الشيخ البشير الإبراهيم رضي الله عنهما إذ كان لهما الفضل الأول في إذكاء العاطفة الإسلامية في نفوس المجاهدين الأحرار الذين حرَّروا الجزائر من الاستعمار.

أجل إن للعلماء المجتهدين الدور الإيجابي البارز في حمل رسالة الإسلام ومقارعة الإلحاد والفساد والاستعمار.

وما ضعف المسلمون وما استكانوا إلا حين ضعف المجتهدون في العالم الإسلامي: حين استبدت السلطات الحاكمة وحجرت الأفكار وبدأ التناحر والتعصب والتمذهب بين فئات المسلمين. فبعد أن كان الاجتهاد موضع التقدير والإجلال من قبل المسلمين عموماً شعوباً وحكاماً مرّت عصور اضطهد فيها المجتهد أو عذِّب أو استشهد. وذلك حين اصطدم رأيه بمصالح الفئة الحاكمة المستبدة. ولكن هذه حوادث نادرة في التاريخ الإسلامي ولله الحمد.

نقاط القوة والضعف في تكوين المجتهد على النهج القديم:

إنَّ للاجتهاد في العالم الإسلامي مزاياه العالية من حيث التكوين العلمي والخلقي والروحي. فقد كان طالب العلم لأجل أن يبلغ منزلة الاجتهاد يطوي الليل والنهار في درسه وأبحاثه وعبادته. كما كان يقوم بتدريس من هم دونه في المنزلة العلمية. كل ذلك في سبيل الله تعالى وحباً في اكتشاف الحقيقة والاستزادة من العلم والمعرفة. وكان يتحلى بالزهد والقناعة في المعاش. فلا تطغى عليه أطماع المادة أو الجاه أو المنصب.

وكانت الدراسة المستمرَّة والبحث الدائب مقرونة بالتدريس تضمن لطالب العلم التعمق والإتقان في العلم والتعليم. وكان الدرس والتدريس يجريان في جو هادئ حرّ لا يعكّر صفوهما امتحان آخر السنة ولا الشهادات المدرسية. فالدرس يجري بلا إلحاح ولا استعجال ومواعيد الدراسة تعيَّن حسب الاتفاق والاقتضاء بين الأستاذ وطلابه. علام الاستعجال والعمر كله درس وتدريس بلا انقطاع؟!

ومن مزايا الاجتهاد أنه (إفرادي) يؤسَّس على الاستقلال الفكري والاستنباط للمجتهد الفرد. فالمجتهد يكوِّن رأيه بعد الدرس والتأمل العميقين ثم يجهر برأيه بكل جرأة وحرية مهما اختلف رأيه مع آراء غيره من المجتهدين. 

ولما كانت مجموعة العلوم والمعارف القديمة محدودة فقد كان في وسع طالب العلم أن يكون موسوعياً إذا استطاع ورغب في ذلك فإلى جانب اختصاصه في العلوم الدينية كان يمكنه الغوص في الفلسفة أو التاريخ أو الأدب أو الرياضيات مثلاً.

ولما دبَّ الضعف والانحلال في المجتمعات الإسلامية أغلقت أبواب الفكر والعقول في وجه ما يدعي بالعلوم الدنيوية واقتصر الاجتهاد على العلوم الدينية. وأصبحت الحياة الفكرية الإسلامية راكدة تقريباً بينما سار الغرب في حقول العلوم المضبوطة والاكتشافات الجغرافية بخطى حثيثة. ولم يعد المسلمون يُعنون بما يجري في الغرب من تقدم واستعداد الأمر الذي أدَّى إلى استيلاء الغرب على معظم أقطار العالم الإسلامي نتيجة لما انتشر في العالم الإسلامي من انقسامات وما سادها من استبداد وعدم استعداد.

وفي عصور التخلف هذه مُنِي البعضُ من العلماء المجتهدين بالعزلة والانكباب على الدرس والعبادة على الأكثر فلم يتصلوا اتصالاً كافياً بالشعوب ولا بالحياة المعاصرة داخل العالم الإسلامي وخارجه ليطلعوا على مشاكل الإنسان المسلم وما يعانيه من مشاكل عقائدية وأخلاقية واقتصادية واجتماعية، وما يحيط به من أخطار خارجية. 

انتشر في العديد من الأقطار الإسلامية الاستبداد والفساد في نظم الحكم وانفصال بين الدين والدولة. وبين الشباب والإيمان (كنتيجة للثقافة العلمانية) وحصل تساؤل وتضارب بين ما يدعو إليه علماء الدين وبين التطبيق الواقعي في حياة الناس عامة. والكثيرون يعيشون هذا التناقض في عصرنا هذا.

حاجتنا إلى اجتهاد جديد:

قبل الحديث عن تكوين المجتهد المطلوب للعصر الجديد يجدر بنا أن نستعرض المبادئ الأساسية التي تقودنا في حياتنا الإسلامية الجديدة والتي لابدَّ من أخذها بعين الاعتبار في تكوين المجتهد الجديد:

1 – إن الدين الإسلامي وهو دين الله تعالى الخالد. دين شمولي يتناول حياة الإنسان (كفرد، وكجماعة) من كل جوانبها. إنه دين يربط الحياة الدنيا بالآخرة. إنه يدعو إلى الآخرة ولكنه لا يهمل الدنيا [وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] {القصص:77}. ولذلك فهو لا يقتصر على العقائد والعبادات بل يشمل أيضاً حياة الإنسان الصحية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والإبداعية والأخلاقية والوطنية والدولية...الخ.

فالمطلوب من المجتهدين أن يرشِّدوا ويوجِّهوا الإنسان المسلم في شؤون حياته كلها.

2 – إن الدين الإسلامي وهو دين الله تعالى الخالد جاء لبني الإنسان في كل مكان بتعاليمه المتضمنة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة صالحة لكل الأزمان. ولكن تطبيقها على الحياة والظروف والأزمنة والأمكنة المتغيرة والمتطورة تتطلب تطويراً في التطبيق. 

التعاليم الدينية ثابتة ولكن الظروف الكونية والحياتية دائمة التغير ولاسيما بعد تطبيق الاكتشافات العلمية والاختراعات الحديثة على حياة الإنسان المعاصر. ولذلك فيصبح لزاماً على المجتهد أن يلم بالعوامل التي تؤدي إلى تغيير الظروف ويقدر نتائجها فيصدر أحكاماً تلائم الموقف الجديد.

3 – لما كانت كل العلوم وكل الاكتشافات والمخترعات تدل على عظمة الخالق سبحانه وهي من نعم الله التي لا تحصى على الإنسان فإنها تدعم في نفس الإنسان المؤمن إيمانه بالله تعالى والاعتراف بكل تواضع وخشوع بعلم الله وقدرته وإرادته، فكل العلوم وكل المخترعات لها في نظرنا صفة دينيّة فهي قد تصبح من علوم العقائد حقاً إذا ما أحسن توجيهها دينياً. ولذلك فلا يصح في نظرنا تقسيم العلوم إلى علوم دينية وعلوم دنيوية فالعلوم كلها دينية. والتقنيات كلها دينية. وآيات الله سبحانه وتعالى تتجلى في علوم الدين والدنيا على السواء. ألم يقل سبحانه وتعالى: [سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ] {فصِّلت:53} ، إذن فالعالم الديني مؤهل لأن يدرس علوم الدنيا والدين على السواء. كما أنَّ العالمين بعلوم الدنيا في وسعهم أن يدرسوا العلوم الدينية كل العلوم وكل الفنون والمخترعات هي منح إلهية للإنسان فهي دينية.

4 – لما كانت البحوث العلمية والتطبيقية قد بلغت درجة عالية من الضبط والدقة والتوسع والتفرع لم يعد في وسع أي إنسان مهما بلغ من الذكاء وسعة الاستيعاب أن يلمّ بأكثر من فرع من العلوم. ولذلك فإعداد المجتهد يتطلب دراسة عامة واسعة في العلوم لرؤية الكلّ ثم الشروع في التخصص.

ولما كانت مرحلة التخصص هي مرحلة الإعداد للاجتهاد يترتب على ذلك تعدّد المجتهدين الإخصائيين في شتى العلوم الدينية والدنيوية ويستحسن أن يقرن المجتهد في العلوم الدينية اجتهاده باختصاص آخر كالرياضيات أو النبات أو التاريخ إلى غير ذلك أو بمهنة كالطب أو الفلاحة أو الاقتصاد إلى غير ذلك.

5 – لما كان الإسلام يدعو المسلم إلى طلب العلم (ولو بالصين) ويعتبر (الحكمة ضالة المؤمن التقطها أنى وجدها) يترتب على طالب الاجتهاد أن يكون متفتحاً على العالم ولاسيما فيما يتعلق باختصاصه في العلوم الدينية أو العلوم الدقيقة: فيتعرف على النشاط الذي يمارسه أبناء سائر الأقطار الإسلامية. وهذا يتطلب إتقان لغات أجنبية واحدة على الأقل إلى جانب إتقان العربية.

6 – من المستحسن جداً في نظرنا أن يكون طالب الاجتهاد ممن زاولوا (أو يزاولون) ناحية من نواحي الحياة العملية التي تتصل بشؤون كسب المعاش: كاشتغال في معمل أو اشتغال في حقل كما فعل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو اشتغال في متجر كما فعل الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، فالمفروض في المجتهد أن تكون له خبرة مباشرة بالحياة العامة مطلعاً على مشاكل الحياة وسلوك الإنسان يفكر في سبيل تعديل هذا السلوك إن كان معوجاً ويشجعه إن كان مستقيماً.

فالمجتهد ينبغي أن يكون رجل دنيا ودين في الوقت ذاته.

7 – المفروض في المجتهد أن يكون ملمّاً بأحوال أمته وما تحويه من إمكانات عظيمة ينبغي أن تستثمر وتوجه نحو الخير من جهة وما تعاني منه من جهل وتخلف وفساد واستبداد من الجهة الأخرى وذلك يتطلب من أبناء الشعب تفهماً جديداً لحقائق الدين الحنيف وتعاليم القرآن الكريم والسنة الشريفة. فالقرآن والسنة يدعوان المسلمين إلى الوحدة وإلى القوة وإلى العلم وإلى العمل الصالح مع التحلي بروح الإخاء والعدل والإنصاف والرحمة. والمهمة التي يتعهدها المجتهد هي حمل المسلمين على أن يعيشوا دينهم فعلاً وتطبيقاً. وأداء هذه المهمة يتطلب الإلمام بقواعد التربية.

8 – وإلى جانب معرفة المجتهد بأحوال أمته يجدر به أن يتعرف على مواطن القوة والضعف في المدنيَّات الأخرى فمدنية الغرب مثلاً فيها من عناصر القوة في الأسلوب العلمي وفي الاختراع ما ينبغي الحصول عليه والعمل به. ولكن العلم والاختراع وما حققاه في الغرب من إنجازات في حقول غزو الفضاء وتفجير الذرة والعقول الالكترونية والأوتومية في الصناعة والهندسة البيولوجية وما تشمل عليه من تلاعب بالوراثيات (الجينات) وطفل الأنبوب الزجاجي وزرع الأعضاء في جسم الإنسان وتعريف الموت والحياة كل هذه الإنجازات العلمية استحدثت للإنسان المعاصر مشاكل وأخطاراً اجتماعية إلى جانب المنافع الممكنة. وعلماء الدين والأخلاق والتشريع في الغرب لم يتوصلوا بعد إلى حلول ناجعة للعديد من المشاكل والأخطار المحدقة بالإنسانية وهي تتطلب من المجتهد المسلم في عصرنا هذا أن يكون مطلعاً بصورة مباشرة على المسائل هذه والمشاكل التي تنجم عنه ليجد الحلول الإسلامية الناجعة لها.

9 – نظراً لتعقد الحياة العصرية وتنوع المشاكل واتساع العلوم وتطبيقاتها على الحياة أصبح من الضروري أن يتخصص المجتهد في حقل واحد من حقول المعرفة. وأن يتنوع المجتهدون وفق الاختصاص وأن يصبح الاجتهاد عملاً تعاونياً بعد أن كان فردياً.

وأن تؤسس مجالس اجتهاد يحضرها مجتهدون من شتى الاختصاصات فلم يعد في وسع المجتهد الواحد أن يلم بكل علوم الدنيا والدين يجد الحلول لكل مشاكل الإنسان في هذا الزمان.

10 – نستخلص من كل ما مرَّ أعلاه أنَّ العالم الإسلامي اليوم هو في أمسِّ الحاجة إلى قيادة دينية حكيمة قيادة تتصف بالتقوى والعلم (علوم الدنيا والدين) والحكمة والشجاعة في الإفصاح عن الرأي والقدوة الصالحة. وهذا بعض ما يجب أن يحسب له الحساب في تكوين المجتهد في عصرنا.

[للمقالة تتمة]

المصدر: مجلة المسلم المعاصر. رجب، شعبان ورمضان 1404 - العدد 39

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين