الطيبون للطيبات في الأقوال والأزواج

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه الطيبين الطاهرين، وبعد:

فقد اطلعت أكثر من مرة على كلام مكتوب وحديث مسجل في معنى قوله تعالى في الآية رقم (26) من سورة النور، ينفي فيه الكاتب والمتحدث أن يكون معنى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ...} شاملاً الأزواج، وأنه خاص بالقول والقائل، وأن حمله على الأزواج يعارض الآيتين من آخر سورة التحريم، وهذا عرض لما كتبه الكاتب، ومداخلتي إياه، ثم تعقيبه على مداخلتي، ثم ما تيسر لي من الكتابة في إضاح الموضوع، والله الموفق.

***

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ? وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ? أُولَ?ئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ? لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)} (سورة النور).

قال قائل: مامعنى {الطيبون للطيبات والخبيثون للخبيثات?!} 

غير مفاهيمك الخاطئة وتعرف عن التفسير الصحيح!

• الجــواب: 

قال تعالى: {الخـبيثات للخـبيثين والخـبيثون للخـبيثات والطـيّبات للطـيّبين والطـيّبون للطـيّبات} (النور26)

السـؤال: هل كل إنسان طيّب تكون زوجته طيّبة، أو العكس؟

يعتقد الكثيرون أنّ الآية الكريمة تتكلّم عن (النسـاء والرجال) وعلاقة الزواج بينهمـا، فـلو كان هـذا التفسـير صحيحاً لتعارض مع قولـه تعالى:

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ? كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (التحريم 10 / 11).

إنّ الآية الكريمة في سـورة النـور تتحدّث عـن (الكلمات الطـيّبة) و(الكلمات الخبيثـة)، وليس عـن النسـاء والرجال ، وهـذا واضـح من نهـاية الآيـة: {الخـبيثات للخـبيثين والخـبيثون للخـبيثات والطـيّبات للطـيّبين والطـيّبون للطـيّبات أولئـك مـبرّؤون مـمّا يقولون} (النور26).

أي أنّ (الإنسـان الطـيّب) لا يقول إلا (الكلمات الطـيّبة)، والإنسان الخبيث لا يقول إلا الكلمات الخبيثة، وقـد كانت الآيات السـابقة لهذه الآية تتحدّث عنْ (قـذْف المؤمنات المحصـنات)، والقرآن الكريم تحدّث في مواضـع أخرى عن (الكلمة الطـيّبة) و(الكلمة الخـبيثة)، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ? وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26)} (سورة إبراهيم)، وقال: {إلـيه يصـعد الكـلِم الطـيّب} (فاطر 10)، وقال تعالى: {وهُـدوا إلى الطـيّب من القول} (الحج 24). 

والإنسـان إذا اعتاد على قول الكلمات الطـيّبة يكون (طـيّباً)، وتكون لحظات موتـه هي لحظـات سـعادة، قال تعالى: {الذين تتوفّاهـم الملائكـة طـيّبين يقولون سـلامٌ عليكـم} (النحل32)، لذلك أوصانا تعالى أنْ نقول للناس أحسـن الكلمات فقال: {وقـلْ لـعبادي يقولوا التي هي أحـسن} (الإسـراء 53)، فمن كان يريد أنْ تكون لحظات موتـه لحظات سـعادة عليه أنْ ينفّـذ أمر الله تعالى ويقول للناس جميعـاً القول الحسـن، فقال تعالى: {وقولوا للناس حسـناً} (البقرة 83). 

الكلامُ الفـاسِـدُ: أيْ كَلامُ العُهْـرِ، يُفْسِدُ النَفْـسَ، لِذَلِكَ كَانَ القُرْآنُ الكَرِيْمُ الذي هُوَ كَلامُ اللّهِ، يُزَوِّدُ النُفُوسَ بِالطَـاقَةِ السَـامِيَةِ، مِثْلَمَا يُزَوِّدُ الطَعَـامُ الصَالِحُ الجِسْـمَ بِالطَاقَةِ الحَـيَوِيَّةِ، فَمُتْعَةُ الحَيَـاةِ في لُقْمَةٍ طَيِّبَةِ وَ(كَلِمَةٍ طَيِّبَـةٍ)، لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لا يُخْرِجُكَ (العُـسْرُ وَاليُـسْرُ) عَـنِ الأخْلاقِ، فالعُسْـرُ وَاليُسْـرُ لَيْسَـا خَيْراً أوْ شَـرَّاً بِحَدِّ ذَاتِهِمَا، بَلْ قَـدْ يَكُونانِ خَـيْراً أوْ شَـرَّاً، وِفْقَـاً لِمَـا يُمْلِيَـانِهِ عَـلَيْكَ مِنْ شُـعُورٍ. انتهى.

***

فكتبت في المداخلة:

ما ذكره الفاضل من تفسير الآية من سورة النور بالقول الطيب والقائل الطيب، والكلمة الطيبة وقائلها، وعكسها من قول السوء والقائل السيئ، والكلمة السيئة وقائلها لا اعتراض عليه، وبها وردت عبارات في تفسيرها عن أئمة التفسير، كما في تفسير ابن كثير وغيره من كتب التفسير.

ولكن هذا التفسير لا ينفي التفسير الآخر، في أن الرجال الطيبين للنساء الطيبات، والرجال الخبيثين للنساء الخبيثات، بعضهم لبعض؛ فدلالة الآية تشمل المعنيين، وهي في سياق تبرئة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من الإفك الذي جرى عليها.

وردُّ هذا المعنى بما ذكره من آيتي سورة التحريم لا يستقيم؛ لأنها واقعة حال خاصة استثناء عن العام، وكما وقع في الزواجات تلك الاستثناءات؛ فإنه يقع استثناء في المعنى الذي ذكره من أن الآية في الكلمة الطيبة والإنسان الطيب...إلخ؛ فقد وقع عدد من الصحابة الأجلاء في حديث الإفك على أم المؤمنين، وأقيم عليهم حد القذف وهم:

1- حسان بن ثابت شاعر الرسول الأول.

2- مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر الصديق، مهاجري بدري.

3- حمنة بنت جحش أخت زينب بن جحش أم المؤمنين. رضي الله عنهم جميعاً.

فإذا كان وجود الزواجات الثلاثة المستثنيات من قاعدة الطيبات للطيبين؛ نوح ولوط النبيَّيْن وامرأتيهما الكافرتين، وفرعون الكافر وامرأته المؤمنة، تنقض أن يكون المقصود بآية ?الطيبات للطيبين...? الأزواج؛ فإن الأمثلة الثلاثة التي ذكرتها في الحادثة نفسها ينقض المعنى الآخر. 

وهذه ثلاث بثلاث. ولكن الأمر ينظر فيه للعموم، ولكل قاعدة استثناء.

مع العلم أن الزواجات الثلاثة حاصلة قبل الدعوة إلى الله من نوح ولوط وموسى عليهم السلام،فكانت سابقة للتكليف بالرسالة والدعوة، وبعد التكليف اختلف الأمر؛ فقتل فرعونُ امرأته التي آمنت، أي أن الحياة الزوجية لم تستمر.

وهلكت المرأتان الكافرتان، لنوح ولوط عليهما السلام كما ورد في آية سورة التحريم، فثبت بهلاكهما معنى الآية وتأكد.. من أن (الطيبات للطيبين...) يشمل الأزواج والزوجات، كما يشمل الأقوال والكلمات والقائلين والقائلات. وأورد ابن كثير القائلين بالمعنيين من مفسري الصحابة والتابعين.

***

وقد كتب الأخ الفاضل تعقيباً على قولي كما يأتي:

الآية تتحدث عن الأمر بإطلاقه. فلا نخصص الأمر بفلان قال كذا أو كذا. لنثبِت مطلقاً بمقيد. 

أما إذا أدخلنا مسألة النساء والرجال في هذا؛ فإنما يدخلنا ذلك في أمثلة لا تنحصر بنساء الأنبياء فقط. وهذا غير صحيح. فكم من رجل سيئ تحته امرأة صالحة. وكم من امرأة سيئة تحت رجل صالح! وهذا بإطلاقه مخالف للآية إن كانت بهذا الفهم. 

وابن كثير ليس الحجة الفريدة في ذلك، خاصة وأنه لا يوثق كثيراً من رواياته. 

فالأقرب في الفهم والسياق في الآيات هو الخبث من القول بإطلاقه للخبيثين. والطيب بإطلاقه للطيبين. 

وإن كان هناك شذوذ فلا ينطبق على القاعدة. 

ففعل حسان ومسطح شذوذ عن القاعدة لا يخرجهم من صف الطيبيين. ولا يعني ذلك أن غيرهم لم يخطئوا أبداً. 

وقول أبي جهل: إن محمداً صادق، وقوله أيضاً: إنه لا يروع بنات محمد؛ لا يخرجه من صف الخبيثين، لأن قوله هذا شذوذ عن القاعدة. انتهى.

***

وأقول تعقيبا عليه: 

إذاً؛.. أخرجنا أن يكون وقائع الحال قيداً لمطلق الآية، أو مخصصاً لعموم معناها، سواء حمل المعنى على الأقوال والقائلين، أو الأزواج من الرجال والنساء، فيبقى إثبات المقصود بآية: ?الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ...? من نصوص أخرى.

وقد أورد الفاضل عدداً من الآيات في تعضيد أن المقصود القول والقائل، وأنا أوافقه في إثبات ما ذهب إليه، وليس ما نفاه.

وأنقل هنا الآيات الكريمة التي تؤسس وتؤصل أن الآية: ?الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ? وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ??، تشمل في معناها الرجال والنساء:

• أولاً مطلع سورة النور، قال تعالى: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (النور 3). فدلالة الآية هنا واضحة تماماً أن الخبيثات والخبيثين من الزناة والمشركين بعضهم لبعض رجالاً ونساء، وحرم ذلك على المؤمنين الطيبين، ويدخل فيه المؤمنات أيضاً. وهذا يدلنا أن الآية الخاتمة في قصة الإفك، والتي تنتهي بقوله تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} تشير إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، ةتشير إلى بداية السورة: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. وقد رميت عائشة وصفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنهما بالإفك، وأنهما من الطيبين والطيبات، وأن النبي سيد الطيبين لا يمكن أن تكون زوجته إلا طيبة طاهرة مبرأة مما يقوله أهل الإفك، وصفوان صحابي من أهل بدر طيب لا يقدم على سوء، شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاح. 

• ثانياً: في سورة البقرة قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِوَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (سورة البقرة 221). وهذه الآية صريحة في دلالتها وقطعية؛ في التأسيس والتأصيل لمبدأ زواج المؤمنين الطيبين والطيبات من الرجال والنساء بعضهم من بعض، وبالمقابل فإن المشركين الخبيثين والخبيثات من الرجال والنساء ينكح بعضهم بعضاً، مثل الآية رقم (3) من سورة النور.

• ثالثاً: في سورة الممتحنة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِلَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا? وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ? وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ  يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (سورة الممتحنة 10). هذه الآية توضح بجلاء وتشرع عملياً في فصل الأزواج المؤمنين من الكافرين رجالاً ونساء بعضهم من بعض. وهذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية، وكان من شروطه إعادة من جاء من المشركين إلى المسلمين، فنزلت هذه الآية بمنع إعادة المسلمات المهاجرات إلى أزواجهن الكفار، وحل عروة النكاح بين الزوج المسلم وزوجته الكافرة: ?وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ?، فوقع الفراق بين الطرفين. 

فإذا كانت آية سورة البقرة، وآية سورة النور؛ منعت تأسيس النكاح بين المؤمنين والكافرين، والزناة أهل الفواحش؛ فإن هذه الآية من سورة الممتحنة حلت الروابط السابقة على التكليف في هذه المسألة، فقد جاء الإسلام والمجتمع كله على الكفر، والروابط الزوجية قائمة، واستمر تأسيس الزواجات بين الطرفين لعدم تمايز المجتمع المسلم وعدم استقلاليته، فكان هذه الحكم مثل سائر الأحكان التي تدرجت في التأسيس، وهيأت المجتمع المسلم على قبوله والامتثال له طواعية ورضا عن إيمان، مثل الخمر والربا، وغيرهما من التشريعات. ومن هذا المنطلق ينبغي النظر إلى آيات سورة التحريم في زوجتي نوح ولوط عليهما السلام، وفي امرأة فرعون المؤمنة. فكان نوح مستضعفا في قومه والمؤمنون قلة لا حول لهم ولا قوة، وكذلك كان لوط عليه السلام، وأضعف منهما كانت المرأة المؤمنة عند فرعون الطاغية الذي صار مثلا للطغيان والظلم، وقد انتهى الأمر باستشهاد امرأة فرعون، وبهلاك المرأتين الكافرتين للنبيين الصالحين نوح ولوط.

***

بعض أقوال المفسرين آية سورة النور: 

• قال العلامة الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير: 

(بعد أن برأ الله عائشة رضي الله عنها مما قال عصبة الإفك ففضحهم بأنهم ما جاؤا إلا بسيء الظن واختلاق القذف وتوعدهم وهددهم ثم تاب على الذين تابوا أنحى عليهم ثانية ببراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تكون له أزواج خبيثات لأن عصمته وكرامته على الله يأبى الله معها أن تكون أزواجه غير طيبات. فمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم كافية في الدلالة على براءة زوجه وطهارة أزواجه كلهن. وهذا من الاستدلال على حال الشيء بحال مقارنه ومماثله. وفي هذا تعريض بالذين اختلقوا الإفك بأن ما أفكوه لا يليق مثله إلا بأزواجهم ، فقوله: ?الخبيثات للخبيثين? تعريض بالمنافقين المختلقين للإفك.

والابتداء بذكر {الخبيثات} لأن غرض الكلام الاستدلال على براءة عائشة وبقية أمهات المؤمنين. واللام في قوله: {للخبيثين} لام الاستحقاق. والخبيثات والخبيثون والطيبات والطيبون أوصاف جرت على موصوفات محذوفة يدل عليها السياق. والتقدير في الجميع: الأزواج.

وعطف والخبيثون للخبيثات إطناب لمزيد العناية بتقرير هذا الحكم ولتكون الجملة بمنزلة المثل مستقلة بدلالتها على الحكم وليكون الاستدلال على حال القرين بحال مقارنه حاصلاً من أي جانب ابتدأه السامع.

وذكر {والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} إطناب أيضاً للدلالة على أن المقارنة دليل على حال القرينين في الخير أيضاً. 

وعطف {والطيبون للطيبات} كعطف {والخبيثون للخبيثات}.

وتقدم الكلام على الخبيث والطيب عند قوله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب} في سورة الأنفال ( 37) وقوله: {قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} في سورة آل عمران ( 38) وقوله: {ويحرّم عليهم الخبائث} في سورة الأعراف (157).

وغلب ضمير التذكير في قوله: {مبرءون} وهذه قضية كلية، ولذلك حق لها أن تجري مجرى المثل وجعلت في آخر القصة كالتذييل.

والمراد بالخبث: خبث الصفات الإنسانية كالفواحش. وكذلك المراد بالطيب: زكاء الصفات الإنسانية من الفضائل المعروفة في البشر فليس الكفر من الخبث ولكنه من متمماته. وكذلك الإيمان من مكملات الطيب فلذلك لم يكن كفر امرأة نوح وامرأة لوط ناقضاً لعموم قوله: {الخبيثات للخبيثين} فإن المراد بقوله تعالى: {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما? (التحريم: 10) أنهما خانتا زوجيهما بإبطان الكفر. ويدل لذلك مقابلة حالهما بحال امرأة فرعون {إذ قالت رب ابْننِ لي عندك بيتاً في الجنة} إلى قوله: {ونجني من القوم الظالمين} (التحريم: 11).

والعدول عن التعبير عن الإفك باسمه إلى ما يقولون إلى أنه لا يعدو كونه قولاً ، أي أنه غير مطابق للواقع كقوله تعالى: {ونرثه ما يقول} (مريم: 80) لأنه لا مال له ولا ولد في الآخرة.

والرزق الكريم: نعيم الجنة. وتقدم أن الكريم هو النفيس في جنسه عند قوله: {درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} في سورة الأنفال (4). وبهذه الآيات انتهت زواجر قصة الإفك.

• وكتب صاحب في ظلال القرآن عند تفسير هذه الآية: (ويختم الحديث عن حادث الإفك ببيان عدل الله في اختياره الذي ركبه في الفطرة، وحققه في واقع الناس، وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة، وأن تمتزج النفس الطيبة بالنفس الطيبة. وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج، وما كان يمكن أن تكون عائشة رضي الله عنها كما رموها، وهي مقسومة لأطيب نفس على ظهر هذه الأرض: 

{الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات. والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات. أولئك مبرءون مما يقولون، لهم مغفرة ورزق كريم} .. 

ولقد أحبت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة حبا عظيما، فما كان يمكن أن يحببها الله لنبيه (ص: 2506) المعصوم، إن لم تكن طاهرة تستحق هذا الحب العظيم. 

أولئك الطيبون والطيبات مبرءون مما يقولون بفطرتهم وطبيعتهم، لا يلتبس بهم شيء مما قيل. 

لهم مغفرة ورزق كريم.. مغفرة عما يقع منهم من أخطاء، ورزق كريم، دلالة على كرامتهم عند ربهم الكريم. 

بذلك ينتهي حديث الإفك، ذلك الحادث الذي تعرضت فيه الجماعة المسلمة لأكبر محنة، إذ كانت محنة الثقة في طهارة بيت الرسول، وفي عصمة الله لنبيه أن يجعل في بيته إلا العنصر الطاهر الكريم، وقد جعلها الله معرضاً لتربية الجماعة المسلمة، حتى تشف وترف; وترتفع إلى آفاق النور، في سورة النور). والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين