نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة (12)

تكفير من تكلم بكلمة الكفر خوفا من الكفار 

ومن سكن معهم وصار في جملتهم

 

* قال بعض المشايخ: 

"أنا أذكر لكم آية من كتاب الله أجمع أهل العلم على تفسيرها وأنها في المسلمين، وأن من فعل ذلك فهو كافر في أي زمان كان، قال تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان}، وفيها: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة}، فإذا كان العلماء ذكروا أنها نزلت في الصحابة لمَّا فتنهم أهل مكة وذكروا أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه مع بغضه لذلك وعداوة أهله لكن خوفا منهم أنه كافر بعد إيمانه فكيف بالموحد في زماننا إذا تكلم خوفا منهم لكن قبل الإكراه؟!، وإذا كان هذا يكفـُر فكيف بمن صار معهم وسكن معهم وصار من جملتهم؟!، فكيف بمن أعانهم على شركهم وزينه لهم؟!". 

أقول: هذا فيه وقفات: 

الوقفة الأولى: 

قال الله عز وجل: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم. ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين. أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون. لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون. ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتِنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}. [الآيات 106 ـ 110 من سورة النحل]. 

فقول الشيخ إن هذه الآيات نزلت في الصحابة لمَّا فتنهم أهل مكة وأنها نزلت فيمن تكلم بكلام الشرك بلسانه مع بغضه لذلك وعداوة أهله خوفا منهم هو مخالف مخالفة صريحة لكلام الله تعالى، لأن الوعيد فيها هو لمَن كفر بالله من بعد إيمانه وانشرح صدره بالكفر، وليس فيها أنها لمَن يبغض الشرك ويعادي أهله. 

الوقفة الثانية: 

المعنى الذي أشار إليه الشيخ لعله أخذه مما رُوي في تفسير آيات أخرى من كتاب الله عز وجل، هي قوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا}. [الآيات 97 ـ 99 من سورة النساء]. 

وقد رُوي هذا المعنى عن ابن عباس ـ وليس بثابت عنه ـ، ورُوي عن عكرمة مولى ابن عباس وقتادة والشعبي والسدي. []. 

الرواية عن ابن عباس: روى الطبري وابن أبي حاتم من طريق أبي أحمد الزبيري وهو صدوق ثقة فيه لين عن محمد بن شريك وهو صدوق ثقة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخْفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم وقتِل بعض، فقال المسلمون كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرِهوا فاستغفِروا لهم، فنزلت {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}". وهذا إسناد ظاهره أنه جيد، ولكن نسبته إلى ابن عباس معلولة، والأصح فيه أنه من قول مولاه عكرمة، كما يأتي في الفقرة التالية. 

ـ الرواية عن عكرمة: روى الطبري عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة أنه قال: "كان ناس بمكة قد شهدوا أنْ لا إله إلا الله، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم، فقتِلوا، فنزلت {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض}". الحسن بن يحيى هو الحسن بن يحيى بن الجعد، روى الطبري في التفسير عنه عن عبد الرزاق، وروى في التاريخ عنه عن عبد الرزاق وعن أبي عامر العقدي، وهو جرجاني سكن بغداد، صدوق مات سنة 263، ووهم من ظن أنه الحسن بن يحيى بن كثير المصيصي. فهذا الإسناد جيد. وروى الطبري عن القاسم بن الحسن عن الحسين بن داود عن حجاج بن محمد المصيصي عن ابن جريج عن عكرمة أنه قال: "{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض}: لما خرج المشركون من قريش وأتباعُهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله وأصحابه خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا، واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتِلوا ببدر كفارا، ورجعوا عن الإسلام. القاسم بن الحسن لم أجد له ترجمة، ولكن اعتمد عليه الطبري في روايات كثيرة جدا عن الحسين بن داود. الحسين بن داود الملقب بسنيد صدوق فيه لين مات سنة 226. حجاج بن محمد المصيصي ثقة تغير في آخر عمره مات سنة 206. عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج مكي أصله رومي ثقة قد يدلس الإسناد مات سنة 150. مات عكرمة سنة 105، ولم يسمع ابن جريج منه، كما قاله المزي، وهو من الرواة عن عمرو بن دينار، فلعله سمعه من عمرو بن دينار عن عكرمة، وهذا الطريق ضعيف لكنه يتقوى بالطريق السابق. 

ـ الرواية عن قتادة: روى الطبري عن بشر بن معاذ عن يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أنه قال في قوله تعالى {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}: "حُدثنا أن هذه الآية أنزلت في أناس تكلموا بالإسلام من أهل مكة، فخرجوا مع عدو الله أبي جهل، فقتِلوا يوم بدر، فاعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبل منهم". بشر بن معاذ بصري صدوق مات سنة 245. يزيد بن زريع بصري ثقة ثقة مات سنة 182. سعيد بن أبي عروبة بصري ثقة قد يدلس الإسناد ويرسل، ثم اختلط، ورواية يزيد بن زريع عنه قبل الاختلاط. فهذا الإسناد جيد عن قتادة. 

ـ الرواية عن الشعبي: قال السيوطي في الدر المنثور بعد ذكره الرواية عن قتادة: أخرج عبد بن حميد عن الشعبي مثله. 

ـ الرواية عن السدي: روى الطبري وابن أبي حاتم عن اثنين عن أحمد بن مفضل عن أسباط عن السدي أنه قال: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض}، فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر. أحمد بن مفضل كوفي صدوق فيه لين مات سنة 215. أسباط بن نصر كوفي صدوق فيه لين مات قرابة سنة 165. فهذا إسناد لين. 

ورُوي خلافه عن مجاهد بن جبر والضحاك بن مزاحم وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم مدني صالح، وهو في رواية الحديث ضعيف منكر الحديث، مات سنة 182، وهو صاحب قرآن وتفسير، ولوالده الإمام القدوة تفسيرٌ رواه هو عنه، وما جمعه في التفسير وفي الناسخ والمنسوخ لعله أو أكثرَه مما جمعه من علم أبيه، وقد رضيه ابن وهب وروى عنه في التفسير قُرابة ألفي رواية. []. 

ـ الرواية عن مجاهد: روى الطبري من طريقين عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى {ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم}: "مَن قتِل من ضعفاء كفار قريش يوم بدر". عبد الله بن أبي نجيح مكي ثقة ربما دلس الإسناد مات سنة 131. وروى الطبري عن القاسم بن الحسن عن الحسين بن داود عن حجاج بن محمد المصيصي عن ابن جريج عن مجاهد أنه قال: نزلت هذه الآية فيمن قتِل يوم بدر من الضعفاء من كفار قريش. القاسم بن الحسن لم أجد له ترجمة، ولكن اعتمد عليه الطبري في روايات كثيرة جدا عن الحسين بن داود. الحسين بن داود الملقب بسنيد صدوق فيه لين مات سنة 226. حجاج بن محمد المصيصي ثقة تغير في آخر عمره مات سنة 206. عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج مكي أصله رومي ثقة قد يدلس الإسناد مات سنة 150. فالإسناد صحيح عن مجاهد بمجموع الطريقين. 

ـ الرواية عن الضحاك: روى الطبري أنه حُدث عن الحسين بن الفرج عن أبي معاذ عن عبيد بن سليمان عن الضحاك أنه قال في قوله تعالى {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}: "أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر، فأصيبوا يومئذ فيمن أصيب، فأنزل الله فيهم هذه الآية". ورواه ابن أبي حاتم في التفسير عن أبيه عن عبد العزيز بن منيب عن أبي معاذ النحوي به نحوه. شيخ الطبري هنا مبهم، والظاهر أنه عبدان بن محمد المروزي الحافظ الثقة المتوفى سنة 293. الحسين بن الفرج هو المروزي، كما صرح به الطبري عند تفسير قوله تعالى {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا}، وهو الحسين بن الفرج بن رزيق مروزي مات سنة 262، وثقه ابن ماكولا في الإكمال ووافقه الذهبي في تاريخ الإسلام وابن ناصر الدين في توضيح المشتبه، ووهم من ظن أنه الحسين بن الفرج البغدادي. عبد العزيز بن منيب المروزي صدوق مات سنة 167. أبو معاذ الفضل بن خالد الباهلي النحوي من قراء القرآن، ذكره ابن حبان في الثقات وقال مات سنة 211. عبيد بن سليمان أو عبيد الله بن سليمان الباهلي الكوفي المروزي صدوق. الضحاك بن مزاحم الخراساني ثقة فيه لين قد يدلس الإسناد ويرسل، مات سنة 105. فهذا الإسناد هنا عن الضحاك لا بأس به. 

ـ الرواية عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: روى الطبري عن يونس عن ابن وهب عن ابن زيد أنه قال: لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم وظهر ونبغ الإيمان نبَغَ النفاق معه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال فقالوا: يا رسول الله، لولا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبوننا ويفعلون ويفعلون لأسلمنا. فلما كان يومُ بدر قام المشركون فقالوا: لا يتخلفُ عنا أحد إلا هدمنا داره واستبحنا ماله. فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي صلى الله عليه وسلم معهم، فقتِلت طائفة منهم وأسِرت طائفة، وقال الذين أسِروا: يا رسول الله، إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وإن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا. فقال الله تعالى {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخِذ منكم ويغفر لكم}، صنيعَكم الذي صنعتم بخروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم. يونس بن عبد الأعلى مصري ثقة ولد سنة 170 ومات سنة 264. عبد الله بن وهب بن مسلم مصري فقيه ثقة مات سنة 197. فالإسناد إلى ابن زيد صحيح. 

الوقفة الثالثة: 

قول الشيخ عن المعنى الذي ذكره إنه أجمع عليه أهل العلم بالتفسير غير صحيح، وقد تبين من نقلِ أقوال المفسرين من السلف أن المسألة خلافية بينهم، وأن ما رُوي فيها عن عكرمة مولى ابن عباس وقتادة والشعبي والسدي يخالفه المروي عن مجاهد بن جبر والضحاك بن مزاحم وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. 

وهذه أقوال بعض علماء التفسير من بعدهم: 

قال الثعلبي في كتاب الكشف والبيان: "{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} نزلت في ناس من أهل مكة دخلوا في الإسلام ولم يهاجروا، وإنهم أظهروا الإيمان وأسروا النفاق، فلما كان يومُ بدر خرجوا مع المشركين إلى حرب المسلمين، فلما التقى الناس ورأوا قلة المؤمنين قالوا غر هؤلاء دينهم، فقتِلوا يوم بدر، فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم". 

وقال مكي بن أبي طالب في الهداية إلى بلوغ النهاية: "رُوي أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا أسلموا والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر النبي عليه السلام أقاموا بمكة، فمنهم من ارتد إلى الشرك، فتنه أبوه وعشيرته حتى ارتد، ومنهم من بقي على حاله، فلما خرج المشركون لنصرة عيرهم إلى بدر خرجوا مع المشركين وقالوا إن كان محمد في كثرة ذهبنا إليه وإن كان في قلة بقينا في قومنا، فلما التقـَوْا بالنبي صلى الله عليه وسلم في بدر نظروه في قلة فبَقـُوا في قومهم، فقتِلوا، فتوفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم". 

وقال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم: "نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع". 

الوقفة الرابعة: 

وصل الشيخ بعد المقدمة لبعض النتائج: 

منها تكفير الموحد في زماننا إذا تكلم خوفا من المشركين قبل الإكراه، والمراد أنه تكلم بكلام كفري ولو لم يقصد المعنى الكفري، وهذا غير صحيح، لأن الصحابي البدري حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كتب لمشركي قريش يعْلمهم بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من المسير لفتح مكة، وهي خدمة للمشركين وقعت فلتة من حاطب، ولم يكفره النبي صلى الله عليه وسلم بها، وجعل ذلك الفعل معصية يغفرها الله له بشهوده بدرا. 

ومن النتائج التي وصل إليها الشيخ تكفير من صار مع المشركين وسكن معهم وصار من جملتهم، وفي هذا إجمال يحتاج إلى تفصيل: فإن كان قد عايش المشركين وصار من جملتهم في الاعتقاد فلا شك في كفره، وإن كان قد صار معهم ومن جملتهم في السكنى فلا يجوز تكفيره بمجرد ذلك. 

أما تكفير من يعين المشركين على شركهم ويزينه لهم فمثل هذا لا شك في كفره، لأن إعانة المشركين على شركهم مع تزيين الشرك لهم لا يصدر عمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان. 

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين