تعدد الزوجات -2- 

ضرورات التعدد 

والضرورات هنا تنقسم إلى اجتماعية وشخصية:

ضرورات التعدد الاجتماعية: 

أما الضرورات الاجتماعية التي تلجئ إلى التعـدد فهي كثيرة نذكر منها حالتين

لا ينكر أحد وقوعهما:

1. عند زيادة النساء على الرجال في الأحوال العادية، كما هو الشأن في كثير من البلدان كشمال أوروبا، فإن النساء فيها في غير أوقات الحروب وما بعدها تفوق الرجال بكثير، وقد قال لي طبيب في دار للتوليد في هلسكني (فنلندا) إنه من بين كل أربعة أطفال أو ثلاثة يولدون يكون واحد منهم ذكراً والباقون إناثاً .

ففي هذه الحالة يكون التعدد أمراً واجباً أخلاقياً واجتماعياً ، وهو أفضل بكثير من تسكع النساء الزائدات عن الرجال في الطرقات لا عائل لهـن ولا بيت يؤويهن ، ولا يوجد إنسان يحترم استقرار النظام الاجتماعي يفضل انتشار الدعارة على تعدد الزوجات ، إلا أن يكون مغلوباً على هواه ، كأن يكون رجلاً أنانياً يريد أن يشبع غريزته الجنسية دون أن يحمل نفسه أي التزامات أدبية أو مادية نحو من يتصل بهن، ومثل هؤلاء خراب على المجتمع، وأعداء للمرأة نفسـها ، وليس مما يشرف قضية الاقتصار على زوجة واحدة أن يكونوا من أنصارهـا ، وحياتهم هذه تسخر منهم ومن دعواهم .

ومنذ أوائل هذا القرن تنبه عقلاء الغربيين إلى ما ينشأ من منع تعـدد الزوجات من تشرد النساء وانتشار الفاحشة وكثرة الأولاد غير الشرعيين، وأعلنوا أنه لا علاج لذلك إلا السماح بتعدد الزوجات. فقد نشرت جريدة ( لاغوص ويكلي ركورد)، نقلاً عن جريدة ( لندن تروث) بقلم إحدى السيدات الإنجليزيات ما يلي : " لقد كثرت الشاردات من بناتنا ، وعم البـلاء ، وقل الباحثون عن أسباب ذلك ، وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات ، وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزناً ، وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني وإن شاركني فيه الناس جميعاً ؟ لا فائدة إلا في العمل بمـا يمنع هذه الحالة الرجسة، ولله در العالم الفاضل (تومس ) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكامل الشفاء وهو : “ الإباحة للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبي على الاكتفاء بامرأة واحدة .. (إن هذا التحديد بواحدة هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من تفاقم الشـر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة)، (أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلاًّ وعاراً وعالة على المجتمع، فلو كان تعدد الزوجات مباحاً لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ما هم فيه من العذاب الهون، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن.. إن إباحة تعدد الزوجات تجعل كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين .

وتدل الإحصائيـات التي تنشر في أوروبـا وأمريكا على ازدياد نسبة الأولاد غير الشرعيين زيادة تقلق الباحثين الاجتماعيين، وهؤلاء ليسوا إلا نتيجة عدم اقتصار الرجل على امرأة واحدة، وكثرة النساء اللاتي لا يجدن طريقاً مشروعاً للاتصـال الجنسي.

2. عند قلة الرجـال عن النسـاء قلة بالغة نتيجة الحروب الطاحنة، أو الكوارث العامة، وقد دخلت أوروبا حربين عالميتين خلال ربع قـرن، ففني فيهـا ملايين الشباب، وأصبحت جماهير من النساء ما بين فتيات متزوجات، قد فقدن عائلهن، وليس أمامهن - ولو وجدن عملاً - إلا أن يتعرفن على المتزوجين الذين بقوا أحياء، فكانت النتيجة أن عملن بإغرائهن على خيانة الأزواج لزواجاتهم، أو انتزاعهم من أحضان زوجاتهم ليتزوجن بهم.

وقد وجدت النساء المتزوجات في هذه الأحوال من القلق وتجرع الهجـر والحرمان ما يفوق مرارة انضمام زوجة أخرى شرعية إلى كل واحدة منهن، وقامت في بعض بلاد أوروبا - وخاصة في المانيا - جمعيات نسائية تطالب بالسماح بتعدد الزوجات، أو - بتعبير أخف وقعاً- في أسماع الغربيين وهو " إلزام الرجل بأن يتكفل امرأة أخرى غير زوجته “.

وضرورات الحـروب ونقصان الرجال فيها لا تدع مجالاً للمكابرة في أن الوسيلة الوحيدة لتلافي الخسارة البالغة هو السماح بتعـدد الزوجات ، وهذا الفيلسوف الإنجليزي سبنسر برغم مخالفته لفكرة تعدد الزوجات، يراها ضرورة للأمة التي يفنى رجالها في الحروب ، يقول " سبنسر" في كتابه أصول علم الاجتماع : ( إذا طرأت على الأمة حال اجتاحت رجالها بالحروب ولم يكن لكل رجل من الباقين إلا زوجة واحدة ، وبقيت نساء عديدات بلا أزواج ، نتج عن ذلك نقص في عدد المواليد لا محالة ، ولا يكون عددهم مساوياً لعدد الوفيات ، فإذا تقاتلت أمتان مع فرض أنهما متساويتـان في جميع الوسائل المعيشية وكانت إحداهما لا تستفيد من جميع نسائها بالاستيلاد ، فإنها لا تستطيع أن تقاوم خصيمتها التي يستولد رجالها جميع نسائها ، وتكون النتيجة أن الأمة الموحدة للزوجات تفنى أمام الأمة المعددة للزوجات ) .

 ضرورات التعدد الشخصية:

هناك حالات كثيرة قد تلجئ الإنسان إلى التعدد، نذكر منهـا على سبيل المثال:

1. أن تكون زوجته عقيماً ، وهو يحب الذرية ، ولا حـرج عليه في ذلك ، فحب الأولاد غريزة في النفس الإنسانية ، ومثل هـذا ليس أمامه إلا أحد أمرين: إما أن يطلق زوجته العقيم، أو أن يتزوج أخرى عليها، ولا شك في أن الزواج عليها أكرم بأخلاق الرجال ومرآتهم من تطليقها ؛ وهو في مصلحة الزوجة العاقر نفسها ، وقد رأينا بالتجربة أنها – في مثل هذه الحالة – تفضل أن تبقى زوجة ولها شريكة أخرى في حياتها الزوجية ، على أن تفقد بيت الزوجية، ثم لا أمل لها بعد ذلك فيمن يرغب في الزواج منها بعد أن يعلم أن طلاقها كان لعقمها، هذا هو الأعم الأغلب، إنها حينئذٍ مخيرة بين التشرد أو العودة إلى بيت الأب ، وبين البقاء في بيت زوجها ، ولهـا كل حقوق الزوجية الشرعية وكرامتـها الاجتماعية ، ولهـا مثل ما للزوجة الثانية من حقوق ونفقات .

نحن لا نشك في أن المرأة الكريمة العاقلة تفضل التعـدد على التشرد، ولهذا رأينا كثيراً من الزوجات العُقَّم يفتشن لأزواجهن عن زوجة أخرى تنجب لهم الأولاد.

2. أن تصـاب الزوجة بمرض مُزمن أو مُعدٍ أو مُنَفِّر بحيث لا يستطيع معه الزوج

أن يعاشرها معاشرة الازواج، فالزوج هنا بين حالتين: إما أن يطلقها وليس في ذلك شيء من الوفاء ولا من المروءة ولا من كرم الأخلاق، وفيه الضياع والمهانة للمرأة المريضة، وإما أن يتزوج عليها أخرى ويبقيها في عصمته، لها حقوقها الزوجية ولها الإنفاق عليها في كل ما تحتاج إليه من دواء وعلاج، ولا يشك أحـد في أن هذه الحالة الثانية أكرم وأنبل، وأضمن لسعادة الزوجة المريضة وزوجها على السواء.

3. أن يشتد كره الزوج لها بحيث لم ينفع معه علاج التحكيم والطلاق الأول، ولا الثاني، وما بينهما من (هدنة ) العدة التي تمتد في كل مرة ثلاثة أشهر تقريباً ، وهنا يجد الزوج نفسه أيضاً بين حالتين : إما أن يطلقها ويتزوج غيرهـا ، وإما أن يبقيها عنده ، لها حقوقها المشروعة كزوجة ، ويتزوج عليها أخرى، ولا شك أيضاً في أن الحالة الثانية أكرم للزوجة الأولى، وأكثر غرماً على الزوج، ودليل على وفائه ونبل خلقه ، وهو في الوقت نفسه أضمن لمصلحة الزوجـة خصوصاً بعـد تقدم السن وإنجاب الأولاد .

4. أن يكون الرجل بحكم عمله كثير الأسفار، وتكون إقامته في غير بلدته تستغرق في بعض الأحيان شهوراً ، وهو لا يستطيع أن ينقل زوجته وأولاده معه كلما سافر، ولا يستطيع أن يعيش وحيداً في سفره تلك الأيام الطويلة ، وهنا يجد نفسه كرجل بين حالين ، إما أن يفتش عن امرأة يأنس بها عن غير طريق مشروع ، وليس لها حق الزوجة ، ولا لأولادها - الذين قد يأتون نتيجة اتصال الرجل بها - حقـوق الأولاد الشرعيين ، وإمـا أن يتزوج أخـرى ويقيم معهـا إقامة مشروعة في نظـر الدين والأخلاق والمجتمع ، وأولادها منه أولاد شرعيون يعترف بهم المجتمع، وينشؤون فيه كراماً كبقية المواطنين ، وأعتقد أن المنطق الهادىء والتفكير المتزن ، والحل الواقعي، كل ذلك يفضل التعدد على الحالة الأولى .

5. بقيت حالة أريد أن أكون فيها صريحاً أيضاً، وهي أن يكون عنده من القـوة الجنسية، ما لا يكتفي معه بزوجته، إما لشيخوختها، وإما لكثرة الأيام التي لا تصلح فيها للمعاشرة الجنسية - وهي أيام الحيـض والحمل والنفاس والمرض وما أشبهها - وفي هذه الحالة نجد الأولى والأحسن أن يصبر على ما هو فيه، ولكن: إذا لم يكن له صبر فماذا يفعل؟ أنغمض أعيننا عن الواقع، وننكره كما تفعـل النعامة أم نحاول علاجه؟ وبماذا نعالجه؟ نبيح له الاتصال الجنسي المحرم وفي ذلك إيذاء للمرأة الثانية التي اتصل بها، وضياع لحقوقها وحقوق أطفالها، عدا ما فيه من منافاة لقواعد الدين والأخلاق؟ أم نبيح له الزواج منها زواجاً شرعياً تصان فيه كرامتها، ويعترف لها بحقوقها، ولأولادهم بنسبهم الشرعي معه؟

هنا تتدخل مبادئ الأخلاق والحقوق فلا تتردد في تفضيل الحالة الثانية على الأولى

ولا بد لي هنا من ذكر حديث جرى بيني وبين أحد الغربيين يلقي ضـوءاً على هذا الموضوع.

حين سافرت إلى أوروبا في عام 1956 موفداً من جامعة دمشق في رحلة استطلاعية للجامعات والمكتبات العامة، كان ممن اجتمعت بهم في لندن " البروفيسور أندرسون " رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية الشرقية في معهـد الدراسات الشرقية في جامعة لندن، وجرى بيننا - فيما جرى من الأحاديث - نقاش حول تعدد الزوجات في الإسلام، سألني أندرسون: ما رأيك في تعدد الزوجات؟ قلت له: نظام صالح يفيد المجتمعات في كثير من الظروف إذا نفذ بشروط! ، قال: أنت إذاً على رأي محمد عبده بوجوب تقييده ؟

قلت: قريب من رأيه لا تماماً، فإني أرى أن يقيد بقدرة الزوج على الإنفاق على الزوجة الثانية ليمكن تحقيق العدل بين الزوجات كما طلب الإسلام.

قال: وهل مثلك في هذا العصر يدافع عن تعدد الزوجات؟ قلت: إني أسألك فأجبني بصراحة من كانت عنده زوجة فمرضت مرضاً معـدياً أو منفـراً لا أمل بالشفاء منه، وهو في مقتبل العمر والشباب فماذا يفعـل؟ هـل أمامه إلا إحدى ثلاث خطوات: أن يطلقها، أو يتزوج عليها، أو أن يخونها ويتصل بغيرها اتصالاً غير مشروع؟ قال: بل هناك رابعة، وهي: أن يصبر ويعف نفسه عن الحرام.

قلت: وهل كل إنسان يستطيع أن يفعل ذلك؟ قال: نحن المسيحيين نستطيع أن نفعل ذلك بتأثير الإيمان في نفوسنا. فتبسمت وقلت: أتقول هذا وأنت غربي؟ أنا أفهم أن يقول هذا القول مسلم أو مسيحي شرقي ، فقد يستطيع أن يكف نفسه عن الحرام ، لأن محيطه لا يهيئ له وسائل الاختلاط بالمرأة في كل ساعة يشاء وأنى يشاء، ولأن تقاليده وأخلاقه لا تزالان تسيطران على تصرفاته، ولأن الدين لا يزال له تأثير في بلاده، أما أنتم الغربيون الذين لم تتركوا وسيلة للاتصال بالمرأة والاختلاط بها والتأثير عليها وإغوائها إلا فعلتم، حتى لم تعودوا تستطيعون أن تعيشوا ساعة من نهار أو ليل دون أن تروا المرأة أو تخالطوها ، منذ تغادرون البيت حتى تعودوا إليه ، أنتم الذين يضج مجتمعكم بالأندية والبارات والمراقص ، وتغص شوارعكم بالأولاد غير الشرعيين ...تدّعون أن دينكم يمنعكم من خيانة الزوجة المريضة ؛ وكيف ذلك وخيانات الزوجات الجميلات الصحيحات الشابات تملأ أخبارها أعمدة الصحف والكتب ، وتصك الآذان ، وتشغل دوائر القضاء ؟‍‍‍‍ ‍

قال : إنني أخبرك عن نفسي ، فأنا أستطيع أن أضبط نفسي وأصبر .. قلت: حسنا ً، فكـم تبلغ نسبة الذين يضبطون أنفسـهم من المسيحيين الغربيين أمثالك بالنسبة إلى الذين لا يصبرون؟ قال: لا أنكر أنهم قليلون جداً.

قلت: وهل ترى أن التشريع يوضع للقـلة التي يمكن أن تعد بعدد الأصابع؟ أم للكثرة والجمهرة من الناس؟ وما فائدة التشريع الذي لا يستطيع تطبيقه إلا أفراد محدودون؟ فسكت وانتهت المناقشة فيما بيننا. أقول هذا لأبين أن الذين يزعمون بأن الغريزة الجنسية ليست كل شيء في حياة الإنسان ، وأن هنالك قيماً أثمن وأغلى كالوفاء والصبر يحرص عليها الحر الكريم، وأن تبرير التعدد بالحاجة الجنسية هو هبوط بالإنسان إلى مستوى الحيوان ، هذا الكلام وأمثاله، كلام جميل، وخيال خصب، قيل في ظل غير هذه الحضارة، ومن غير هؤلاء الذين يتكلمون هذا الكـلام … لو قيل من عباد زهّاد تعف ألسنتهم وأقلامهم وأعينهم عما حرّم الله من زينة المرأة ومفاتناها : واهواء الحياة وشهواتها أما من أولئك فلا ، وخير لهـم أن يحترموا واقع الحيـاة التي تعيشها الإنسانية ، ويعالجوا مشاكلها بصراحة الحكيم المجرب ، لا بمراوغة المجادل المكابر ..

 سؤال غريب

أما وقد ذكرت المبررات الشخصية والاجتماعية لتشريع تعـدد الزوجات، فإني أحب أن أتعرض لسؤال غريب سألتني إياه طالبة في الجامعة حين كنت أتحدث إلى طلابي عن موضوع تعدد الزوجات، قالت: إذا كانت المبررات التي ذكرتموها تبيح تعدد الزوجات، فلماذا لا يباح تعدد الأزواج عند وجود المبررات نفسها بالنسبة إلى المرأة؟

وكان جوابي فيه شيء من التلميح فهمته تلك الفتاة، وتفهمه أمثالها من النساء، وهو أن المساواة بين الرجل والمرأة في أمر التعدد مستحيلة طبيعة وخلقة؛ ذلك لأن المرأة في طبيعتها لا تحمل إلا في وقت واحد، مرة واحدة في السنة كلها، أما الرجل فغير ذلك، فمن الممكن أن يكون له أولاد متعددون من نساء متعددات، ولكن المرأة لا يمكن إلا أن يكون لها مولود واحد من رجل واحد.

فتعدد الأزواج بالنسبة إلى المرأة يضع نسبة ولدها إلى شخص معين، وليس الأمـر كذلك بالنسبة إلى الرجل في تعدد زوجاته.

وشيء آخر وهو أن للرجل رئاسة الأسرة في جميع شرائع العالم، فإذا أبحنا للزوجة تعدد الأزواج فلمن تكون رئاسة الأسرة؟ أتكون بالتناوب؟ أم للأكبر سناً؟ ثم إن الزوجة لمن تخضع؟ أتخضع لهم جميعاً وهذا غير ممكن لتفاوت رغباتهم؟ أم تخـص واحداً دون الآخرين، وهذا ما يسخطهم جميعاً، إن السؤال فيه من الطرافة أكثر مما فيه من الجدية!

تنظر الحلقة الأولى هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين