نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة (11)

 

إطلاق القول في الشرك الأكبر دون تقييد

 

* ـ قال بعض المشايخ: 

"من قال لا إله إلا الله ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر كدعاءِ الموتى والغائبين وسؤالِهم قضاءَ الحاجات وتفريجَ الكربات والتقربِ إليهم بالنذور والذبائح فهذا مشرك شاء أم أبى، و{الله لا يغفر أن يشرك به}، و{من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار}، ومع هذا فهو شرك، ومن فعله فهو كافر". 

أقول: 

التحذير من الشرك الأكبر مهم وضروري لئلا يقع المسلم في شيء منه، لكن لا ينبغي إطلاق القول فيما يجب التقييد فيه، فلا بد من التفريق بين الحالات. 

قوله "فهذا مشرك شاء أم أبى" يعني أن الإنسان قد يكون مشركا الشرك الأكبر وهو غير قاصد أن يكون كذلك، وهذا صحيح، أي إنه يُشترط في حقيقة الكفر قصد المعنى الكفري ولو لم يكن معه قصد تحقيق الكفر على نفسه والخروج من الملة. 

قال الله تعالى {ولكنْ من شرح بالكفر صدرا}، فمن انشرح صدره بالكفر ـ كالاستهانة بالله تعالى وتقدس أو بشيء من كلامه مثلا ـ فقد كفر وخرج من دائرة الإيمان ولو لم ينشرح صدره للخروج منه. 

* ـ قال بعض المشايخ: 

"قال الله تبارك وتعالى {إنكم إذًا مثلهم}، معنى الآية على ظاهرها، وهو أن الرجل إذا سمع آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فجلس عند الكافرين المستهزئين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره فهو كافر مثلهم وإن لم يفعل فعلهم، لأن ذلك يتضمن الرضا بالكفر، والرضا بالكفر كفر". 

أقول: 

الرضا بالكفر كفر، هذا لا شك فيه، ولكن من جلس مع الكافرين المستهزئين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ليس بالضرورة أنه كافر مثلهم، لأن ذلك بمجرده لا يتضمن الرضا بالكفر، فهنالك فرق كبير بين من قعد معهم راضيا بما هم عليه من الكفر ومن قعد معهم لغرض آخر حتى ولو كان لمعصية. 

وهل هذا جائز شرعا إذا لم يكن قعوده معهم لمعصية أو غيرُ جائز بإطلاق أو هو مما تختلف فيه الأحكام باختلاف الحالات؟؟ هذه مسألة ليس محل بحثها هنا. 

ـ السياق الذي وردت فيه الآية الكريمة هو في المنافقين، واقتطاع جزء من الكلام ومحاولة فهمه بعيدا عن السياق الذي اقتطِع منه غير سديد، وهو غير جائز، لا في لغة العرب ولا في غيرها. 

ـ الذي فهمه جمهور المفسرين من الآية الكريمة هو أنها في القعود في مثل ذلك المجلس مع الرضا بما فيه من الكفر والاستهزاء بآيات الله جل وعلا، لا في القعود بدون الرضا بما فيه. 

روى ابن أبي حاتم رحمه الله في التفسير بسند جيد عن مقاتل بن حيان رحمه الله أنه قال: "إن قعدتم ورضيتم بخوضهم واستهزائهم بالقرآن فإنكم إذًا مثلهم". وهو من ثقات أتباع التابعين. []. 

[رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن الفضل بن موسى عن محمد بن علي عن محمد بن مزاحم عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان. محمد بن الفضل بن موسى الرازي صدوق مات قرابة سنة 285. محمد بن علي بن الحسن بن شقيق مروزي صدوق ثقة مات سنة 250. محمد بن مزاحم مروزي صدوق مات سنة 209. بكير بن معروف نيسابوري صدوق ثقة فيه لين مات سنة 163]. 

وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: "أخبر الله تعالى مَن اتخذ مِن هؤلاء المنافقين الكفارَ أنصارا وأولياء بعدما نزل عليهم من القرآن {أنْ إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره} بأن لهم عذابا أليما، وقوله {إنكم إذًا مثلهم}: يعني فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال مثلهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم كما عصَوه باستهزائهم بآيات الله، فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها، فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله وإتيانِكم ما نهاكم الله عنه". 

وقال الواحدي رحمه الله في الوجيز: "قوله تعالى {إنكم إذًا مثلهم}: يعني إن قعدتم معهم راضين بما يأتون من الكفر بالقرآن والاستهزاء به". 

وقال ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير: "في ماذا تقع المماثلة؟، فيه قولان: أحدهما: في العصيان، والثاني: في الرضا بحالهم، لأن مُجالس الكافر غير كافر". 

وقال فخر الدين الرازي رحمه الله في مفاتيح الغيب: "قال المفسرون: إن المشركين كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به، فأنزل الله تعالى {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره}، وهذه الآية نزلت بمكة، ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين، والقاعدون معهم والموافقون لهم على ذلك الكلام هم المنافقون، فقال تعالى مخاطبا للمنافقين إنه {قد نَزَّلَ عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ} غير الكفر والاستهزاء، ثم قال {إنكم إذًا مثلهم}، والمعنى: أيها المنافقون أنتم مثل أولئك الأحبار في الكفر، قال أهل العلم هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر، هذا إذا كان الجالس راضيا بذلك الجلوس، فأما إذا كان ساخطا لقولهم وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر ليس كذلك". 

الحلقة السابقة هـــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين