دعوة لوحدةِ الكلمة ورصِّ الصفوف

 

الحمْدُ لله ربِّ العالمين، وأزكى الصَّلاة، وأتمُّ التَّسليم على سيِّدنا محمَّدٍ، وآلِه وصحبِه أجمعين، وبعد:

فقد أَتَى رَدْحٌ طويلٌ مِنَ الزَّمَن على أهل السُّنة في بلادنا وهم على غايةٍ مِنَ التَّفاهم والتعاون، بل التنسيق والتكامل فيما بينهم، على اختلافِ مدارسِهم وتبايُنِ اجتهاداتهم، وتقاربهم أو تباعدهم في المواقف التي يتَّخذونها من الأحداث اليومية الجارية، فمفهومُ أهْلِ السُّنة الواسع الذي يشمل كلَّ تلك المدراس كان لا يَسْمَح لها عند الأحداث الحاسمة والطوارئ التي تفِدُ على البلاد إلا أنْ تكون جميعاً يداً واحدةً تصْهَرهم المصلحة العامَّة، ويغلب عليهم بُعْدُ النظر والتأمُّل في المواقف، ليتخذوا بناءً على ذلك المواقف الملائمة التي يُواجِهُون بها الأحداث الحاسمة، والمفاجآت الخطيرة التي كان يمكن أنْ تُطِيحَ بِأَمْن البلاد وسلامة العباد لا سمح الله ولا قدَّر، هذا ما أدركناه ووعيْناه مِنْ مواقف مشايحنا عليهم رحمة الله ورضوانه، مهما اختلفَتْ مدارسُهم، وتباعدت مشاربُهم..

فالعقلاءُ مِنْ أبناء الأمَّة والألبَّاء مِنْ علمائها ودعاتها ووجهائها كانوا على غايةٍ بعيدةٍ مِنَ الوعي والنُّضْجِ في تقدير مصلحة الأمَّة، ممَّا حفِظَ البلادَ ووَقَاها من النَّتائج الكارثيَّــة لكثير من الأحداث الجسمية التي أصابت بلادنا..

لكنَّ المصيبةَ العُظْمَى التي حلَّتْ بمجتمعنا فجعَلَــتْــه شَذَرَ مَذَرَ، وفرَّقَتْ كلمتَه، وضربَتْ وحدتَه هي اعتلاءُ حزب البعث العربي الاشتراكي سدَّةَ الحكم في الثامن من آذار في عام ثلاث وستين وتسعمائة وألف، ثم امتطاء الطائفيين الحاقدين لصهوة الحزب المشؤوم، وتشبثهم بزمام الأمور مِنْ كلِّ أطرافها منذ ما يزيد على نصفِ قرنٍ مِنْ تاريخ سوريا الحديث، فقد تمكَّنَتْ تلك الطُّغمة الحاكمة خلال تلك الفترة كلِّها مِنْ ضرب وحدة المجتمع السوري في الصميم، فما كانت تألو جهداً في إشاعة الفرقة والبغضاء بين فئات الناس من العلماء والمثقَّفين والتجَّار وأتباع الأديان وأبناء الطوائف والأعراق والقوميات، بأخبث ما يُتَصَوَّر وما لا يُتَصَوَّر من الأساليب والوسائل التي قد لا تخطر على بال الأبالسة والشياطين، بل قامت تلك الطغمة بمحاولات جادة ومتعددة لإسقاط الرموز والقدوات الصالحة مِنْ جميع الشرائح التي ذكرت.

ومع اندلاع الثورة السورية مِنْ أكثرَ مِنْ ستِّ سنوات كانت لاتزال بقية وافرة من محبة الناس بعضهم بعضاً ومودتهم وإيثارهم، وكمٌّ كبير من حب الوطن والدفاع عنه والاعتداد بالكرامة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها؛ تجيش في قلوب الناس وتتقد تحت رماد تعاليم وفلسفة البعث التي حاولت جاهدة عبر خمسة عقود من الزمان قتل الشعور الإنساني الحر في نفوس الناس وتحويلهم إلى أرقاء يرون الباطل والظلم والفساد والطائفية، ثم يشيحون عن كل ذلك غير مبالين... ونتيجة لظلم البعث ورفض الناس لأساليبه الفاشية خرجت جماهير الناس إلى الشوارع بأعداد هائلة لم يشهد تاريخُ بلادِنا لها مثيلاً مِنْ أقصى سوريا الى أقصاها، في كلِّ مدينة وبلدة وقرية بلا استثناء تطالب باستعادة حريتها وحفظ كرامتها واستقلال وطنها عن الطغمة الفاجرة... ولا يخفى على أحدٍ في سوريا بل وفي العالم كلِّه كيف حافظت تلك الثورة أشهراً طويلة على نقائها وصفائها وسلميَّةِ وسائِلِها وإنسانيةِ أساليبِها في مظاهراتها واحتجاجاتها واجتماعاتها الجماهيرية الكبرى وكل فعالياتها ونشاطاتها.. والنظام المجرم يقابل ذلك كلَّه بأبشع وأفظع أنواع القتل والوحشية وتوجيه الرصاص إلى صدور المتظاهرين وروؤسهم وتوجيه المدرعات والدبَّابات والمدافع إلى جميع القرى والبلدات السورية، وارتكب الفظائع والجرائم المدوَّنة والموثَّقة والتي تقشعر لها أبدانُ كلِّ مَنْ يمتلكون بين جوانحهم المشاعرَ الإنسانية، والشرف الرفيع... وهنا حديث طويل عن ذلك كله لا أريد أن أطيل الخوض فيه إذ ليس هذا مكانه.

فالمهم أنَّ أولئك الرجال الذين قاموا بهذه الثورة اضطروا رغماً عنهم لحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وبيوتهم وأحيائهم، وإلى هنا كانت الأمور تجري بسلامة وسلاسة ودون وجود أخطاء كبيرة أو جوهرية تَلْفَتُ النظر.

لكن هؤلاء الشباب حين شعروا بالاضطرار للاستكثار من السلاح والعتاد والذخيرة ليقفوا في وجه النظام الطاغي مدُّوا أيديَهم الى الداعمين الذين لم يرقبوا في مؤمِنٍ إلَّاً ولا ذمَّة، وليتهم لم يفعلوا، وقد وجَّهْتُ وآخرون لكثيرٍ منهم النصائح ألَّا يمدوا أيديهم ويبسطوا حاجتهم إلا إلى الله تعالى.

وكان ما كان وأصبح رواد الثورة اليوم يتذكرون المثل (رضيت من الغنيمة بالإياب)، وهو مثل يضرب للمرء يشقى في طلب حاجته فلا يدركها ويرى دونها الأهوال فيرضى بالخلوص سالماً.

هذا وقد مدَّ الدَّاعمون أيديهم للثورة السورية، فأساؤوا للشعب السوري أعظمَ الإساءة مِنْ حيث أراد بعضهم الإحسان، ومن حيث أراد الكثير منهم الإساءة في سبيل تحقيق مصالحه الخاصَّة على حساب دماء وأشلاء أبناء شعبنا ونسائه وأطفاله، وأقصد بهؤلاء الداعمين أكثر الدول من أصدقاء الشعب السوري - كما يدَّعون - وكثيراً من المنظمات والأفراد مِنْ أصحاب المشاريع الضيقة والسوداء الذين رغبوا في تحقيقها على أرضنا وعلى حساب الشعب البريء المنكوب مِنْ خلال تدمير البلاد وتهجير وقتل العباد.

لقد كان الكثيرون منا يبذلون جهدهم ناصحين بعدم مدِّ يد الحاجة إلى الداعمين، وخاصَّةً من الدول، وأن يتوجه الشباب بكليتهم إٍلى التزود مِنْ مصدرٍ آخرَ فيه كلُّ السلامة مِنْ كلِّ المعاطب التي أصيبت بها الثورة السورية، وهو ما نصح به القائد الصالح المحنَّك في تاريخنا الإسلامي المجيد طارق بن زياد رضي الله عنه جنوده حينما قال لهم "وليس لكم إلا ما تستخلصونه مِنْ أيدي أعدائكم".. فإنَّ عاقلاً لا يُرَاوِدُه الشَّك بأنَّ في يدي العدو الظالم وفي مستودعاته ما يكفي لتحرير البلاد والعباد، بل وفيها ما هو أكثر مِنْ ذلك بكثير، ولكنَّ الطمع في التحرير الزائف لبعض المناطق دَفَعَ الكثيرين إلى هذا التصرُّف الذي جرَّ الكثير من البلاء على أبناء شعبنا بضُروبٍ من الحصار الوحشي والتآمر الأممي الذي سبَّبَ الجوعَ والعطش والعري والموت لأبناء هذا الشعب الصامد النبيل في تلك المناطق.

كلُّ ذلك وأمثاله وأضعاف أضعافه ممَّا ابتليت به الثورة من داخلها وخارجها- ممَّا لا يتَّسع المجال في هذا المقال الموجز لِبَسْطِ وجوهِه وأنواعِه وأسبابِه مع أمثلته... إذ كل ما ذكر قد أصاب الثورة بمقتَلٍ مِنْ مقاتلها، وذلك بضرب وحدتها وتمزيق صفِّها واختلاف رجالها من جديد.

فكان أكثرُ الداعمين للثورة السورية شرَّ خَلَفٍ في تفريق الكلمة وبعثرة الصفوف لشَرِّ سَلَفٍ يمثِّله حكمُ البعث ومُنْتَعِلِيه خلال أكثر مِنْ نصْفِ قرنٍ مَضَى.

هذا الاستطراد الذي اضطررت للدخول فيه كان لتسليط الضوء على واقع مجتمعنا الزاهر المشرق قبل حكم البعث ومن انتعله، ثم على الفترة المضيئة في استعادة اللُّحمة الوطنية في طالعة الثورة السورية ومبتدئها، والمظاهر التي التمَعَتْ في عيون رجالها ونسائها من عودة الألفة والمحبة والاحترام والإيثار بين السوريين، ثم النكسة التي سبَّبها الدَّاعمون أو أكثرهم، ومِنْ ورائهم صمْتُ المجتمع الدولي الذي يعد في ذلك كلِّه شريكاً للمجرمين.

أَمَا وقد آن لي أنْ أعود إلى جذر الحديث الذي بدأت به وهو وحدة الصَّفِّ السُّنِّي في بلادنا مظهراً بارزاً ومَعْلَماً واضحاً في تاريخنا القديم والحديث ولله الحمد والمنة، فإنَّ مِنْ أوَّل الأوليات التي ينبغي للعلماء والباحثين والكُتَّاب أنْ يجرِّدوا ألسنتهم وأقلامهم ويشحذوا هِمَمَهم لها والعمل عليها هي استعادة البارقة التي أضاءت حياتنا وسعد بها جميع أبناء شعبنا في مَطْلَع الثورة السورية وذلك بإعادة حياة الحبِّ في الله الذي جعله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم أوثق عرى الإيمان، وبه وعليه بُنِيَ مجتمع المدينة المنورة..

لقد صدحت حناجر الثوار في كل مكان ومنذ بداية الثورة بنداء جميل خالد "قائدنا للأبد سيدنا محمَّد" ولو أمعنا النظر فيه جيدا لعرفنا المطلوب منا اليوم؛ إنه الحب في الله والاجتماع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلابد أنْ نَقْوى في بواطننا وقرارة نفوسنا على نبذ جميع الخلافات التي تفرق بين أبناء الأمة من اختلافٍ في الاجتهاد أو تباعدٍ في المشرب أو تجاذب في الآراء والانتماء للمذاهب والمدارس، فإن ذلك كله ولو كان موجوداً في الواقع، ولكنْ مِنْ ضعف العقل وقصر النظر وضيق الأفق وقلة التقوى أنْ يمنع ذلك من اجتماع القلوب على الله ورصِّ الصفوف لمواجهة التحديات الجسام التي تجثم على الأبواب.

ولقد كانت هذه الغاية النبيلة هي الهدف الأول الذي اجتمعت عليه جميعُ مكوِّنات المجلس الإسلامي السوري من الروابط العلمية والهيئات الشرعية والعلماء المستقلِّين؛ بإصرارٍ وتصميمٍ على تحقيقها بين جميع أبناء أهل السنة والجماعة بالمفهوم الشامل الواسع.

وهذه الغاية التي يسعى المجلس لتحقيقها في وحدة صَفِّ المسلمين تقضي بأنْ يتجنَّب العلماء ورجال النخبة وطلبة العلم مِنْ أهل السنة الخوضَ والجدَلَ في جميع الأمور الخلافية على الملأ أو في وسائل التواصل الاجتماعي واللقاءات العامة... إنما مجال ذلك في مجالس العلم والعلماء مع مراعاة آداب المناظرة وأخلاق الباحثين مِنْ علماء السلف رضي الله عنهم.. وفي ذلك يعُمُّ الخير والبركة وتزداد الألفة والمحبة بين أبناء الأمة ممَّا يمهِّد لها أنْ تعود الى مقدّمة الأمم من جديدٍ دون منازع.

 

من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري بتصرف يسير

 

رئيس المجلس الإسلامي السوري فضيلة الشيخ: أسامة عبد الكريم الرفاعي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين