مضلِّلُ الأمة أولى بالضلال

 

في زمن شيوع القراءات الجديدة للإسلام، والتفسيرات المستحدَثة للقرآن الكريم، واستيقاظ دعاوى الاكتِفاء بالقرآنِ وحدَه دون سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وما إلى ذلك من الدّعوات الهدّامة التي هي أقرَبُ ما تكون إلى الزندقة (1)؛ لا بدَّ من توضيحٍ نقطةٍ خفيّة على كثيرٍ من طلبةِ العلم ناهيكَ عن عامّة المسلمين، مع التركيز البالغ على أهميتها وخطورتها، وهي:

أنّ تجويز تضليل الأمُّة (بمجموعها) في أية حِقبةٍ زمنية، في أية جُزئية ـ ولو صَغُرت ـ من جُزئيّات الدين، أو في أيّ حُكمٍ من أحكام الشريعة؛ يؤدّي إلى الطعن في بعثة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، بل هو دَعوى إبطالٍ لها من أساسها!

وذلك: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خاتمُ الرُّسل الذي أُنزل عليه خاتمُ الكُتب، وأنّ الله تعالى قد أرسلَه صلى الله عليه وسلم هادياً إلى صِراطِه؛ كما وصَفَه ربُّنا سبحانه بقوله: ?وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم? [الشورى: 52].

واعتقادُ المسلمين كافةً: أن الهدايةَ التي جاء بها سيّدُنا محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عامّةٌ غيرُ خاصّة، وأنها مستمرّةٌ غير منقطِعة؛ كما تشهَد بذلك نصوصُ القرآن الكريم التي تخلو من أيِّ تخصيصٍ لتلكُم الهداية النبَويّة، والبعثة المصطَفويّة.

وتتحقق هذه الهداية النبوية وتستمرُّ باستمرار الوجود الصحيح لنصوص الوحيَين، وباستمرار الفهم الصحيح لهما والاستنباطِ الصحيح منهما أيضاً؛ لأنه لا قيمةَ عمليةً لوجودِهما المجرَّد عن صحة الفهم والاستنباط.

هذا، وإن تجويز التضليل على «مجموع الأمة» في أيِّ بعضٍ من أبعاض الدين ـ مهما كان ـ يعني: أن الهداية النبويةَ قد انقطعَت وانعدَمت في ذلك الأمر المعيَّن الذي ضلَّت به الأمة على الأقلّ، وأن هدايتَه صلى الله عليه وسلم ليست عامّةً لكلِّ شيءٍ بخُروج ذلك الأمر المعيَّن الذي ضلَّت به الأمة، وهي ليست عامّةً لكلّ زمانٍ بخُروج زمَن ضلال الأمة في ذلك الأمر المعيّن وما بعدَه.

هذا، مع أن تجويز تضليل الأمة في أيٍّ من الدين ـ أيّاً كان ـ يعني قابليّةَ أيِّ شيءٍ آخرَ مثلِهِ ومِن جنسِهِ لأنْ تكونَ الأمةُ قد ضلَّت به أيضاً؛ لأن ما جاز على البعضِ جازَ على الكُلِّ ما لم يَقُم دليلُ التّخصيص.

ووقوعُ مثل هذا يُوقِعُ في الشكِّ في الدين كلِّه، وهو يتعارَضُ مع خاتميّة الرسالة المحمدية وخاتميّة القُرآن الكريم، ويُوجب أن يرسل اللهُ تعالى رسولاً جديداً بوحيٍ جديد، وكتابٍ جديدٍ، وشرعٍ جديد؛ ليستأنف الهدايةَ بعد انقطاعِها، ويدلَّ عليها بعد ضياعِها، وهذا ما صرّح القرآنُ العزيزُ بنَقيضِه وعدَمِ إمكانِه، وأجمَع المسلمون على فسادِه وبُطلانِه.

(1) مع تجنُّب إطلاق هذا الحُكم على آحاد الداعين إلى تلك الدعوات، بلْهَ عوامّ معتقديها؛ لأن هذا الحُكم مما يختصّ به القَضاء الشرعيّ النزيه، ولا يصحُّ لغيره أيّاً كان إطلاقُه، ونقول كما قال الحافظ الذهبي في «تاريخ الإسلام» (15/ 168) بحقّ ابن سبعينَ وهو يذكُر بعض ما يُنسَبُ إليه من طامّاتٍ وبلايا: «مع أنّا لا نشهَدُ على أعيانِ هؤلاء بإيمانٍ ولا كُفرٍ؛ لجواز توبتَهم قبلَ الموت، وأمرُهم مُشكِل، وحسابُهم على الله».

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين