تعدد الزوجات بين التشريع الرباني والإلغاء الإيديولوجي

 

منذ زمن غير يسير ونحن نسمع لغطا شديدا، وصراخا عاليا، وعويلا ساطعا، ضاربا بعنانه إلى السماء حول تعدد الزوجات، وكأنه يشكل أزمة حقيقية للمغاربة أو للعالم العربي. أو كأنه مشكلة دينية في الصميم لا اجتماعية. وفي المقابل لا نكاد نسمع ولو همسا من تحت الثياب رفضا قاطعا، أو استنكارا باتا لتعدد الخليلات الذي لا حد له، ولا رادع له. وقد اطلعت علينا إحدى "المناضلات" "التقدميات" إن كان للتقدم معنى، وهي شديدة الخصام والجدل، بدعوة نشاز وفريدة وغريبة، وهي أن تعدد الزوجات " أصبح وجهاً من أوجه العنف ضد النساء" و"أن الشرف ليس هو البكارة"، وهي دعوة صريحة إلى التخلص من العفة والطهارة والحشمة والحياء. 

ولا نكاد نقرأ – لهؤلاء – حربا على الدعارة والتجارة الجنسية. ولا بيانا استنكارا لبيع الخمر الملعونة، والترخيص لها، وترويجها. ولا دفاعا عن أمن المواطنين الذين أصبحوا اليوم في عدد من المدن مهددين في أمنهم وأنفسهم وأرواحهم، إلى غيرها من القضايا التي تهم الشعب المغربي، وتؤثر في حياته اليومية، ولا تكاد تجد من يهتم بها اهتماما حقيقيا واقعيا، لا اهتماما إيديولوجيا ديماغوجيا سياسويا.

وهذا الذي ذكرناه هو ديدن بعض التيارات الإيديولوجية – أو قل بعض قياداتها وأفرادها - البائدة التي كانت بالأمس ولا تزال إلى يومنا هذا، وإن اختفت وراء نفاق مكشوف، وأقاويل ملتوية مفضوحة في مجاملة الإسلام والمسلمين، تروج "سلعة" بائرة في سوق الفكر الرصين، والثقافة الجادة. 

بعد هذه المقدمة الموجزة، وهي في تقديري غير كافية، ولكن المقام لا يسمح بغير هذا، نود التطرق إلى قضية تعدد الزوجات فيما يلي: 

حق المرأة في اختيار الزوج المعدد

كثير من الناس، ومنهم أصحاب التفسيرات الإيديولوجية يحمِّلون الرجل المسؤولية عن التعدد، لأنه اختار أن يتزوج امرأة أخرى، تضاف إلى التي هي في عصمته. ولكن الحقيقة أن المرأة نفسها ينبغي أن يكون لها حق اختيار الزوج المعدِّد، وهذا ما يقع فعلا وواقعا. فلماذا نحجر على المرأة في هذا الاختيار؟. فإذا حرمنا الزوج من التعدد – كما يريد العلمانيون- فقد حرمنا بالتبع المرأة من اختيارها، ومن ممارسة حقها، في أن تتزوج برجل معدد، شريطة معرفتها واطلاعها على حاله. والواقع خير شاهد، أن المرأة المعدَّد بها تكون –في غالب الأحوال- على علم بزواج المعدِّد بها، وهي راضية بذلك. على أن الذي لا يستسيغه العلمانيون والعلمانيات أن بعض النساء هنَّ ممن يخترن الزوجة المعدَّد بها، ويحملن أزواجهن على التعدد.

والنتيجة من هذا أن للمرأة حقا في اختيار الرجل المعدِّد، وأن لا أحد يحجر عليها في ممارسة حقها، لا شرع من عند الله منزَّل، ولا عقل سليم. فقد تناصر داعي الشرع وداعي العقل على احترام حق المرأة هذا. ولا التفات إلى الدعوات الإيديولوجية والدماغوجية البائدة. 

هل تعدد الزوجات مشكل ديني أو مشكل اجتماعي؟

تعدد الزوجات في ظل الإسلام وتعاليمه السمحة، وعدله ووسطيته الجمَّة، لم يكن مشكلا، ولا هو من المشاكل، بل هو حل من الحلول التي جاءت لحل مشكل اجتماعي، أو قل ظاهرة اجتماعية وهي ظاهرة العنوسة، وذلك أن عدد النساء في العالم اليوم، وحتى في بلدنا المغرب، يفوق عدد الرجال، فما الحل إذن أمام لغة الأرقام؟ لا سيما أن جريدة العلم، قد ذكرت في أحد أعدادها الماضية أنه زهاء ثلاثة ملايين عانس بالمغرب، أضف إلى ذلك عزوف الشباب عن الزواج، للبطالة المتفشية، وللجنس المباح بلا قيد ولا شرط، إلى غيرها من المشاكل التي عادة ما تذكر حين يذكر التعدد. فإذا سبرنا وقسمنا، وجدنا أنفسنا أمام الحلول الآتية:

- وقف التعدد وعدم مراعاة المشاكل الناجمة عن هذا الوقف والإلغاء.

-إشباع الرغبات الجنسية عن طريق العلاقات غير الشرعية، بمعنى فتح الباب على مصراعيه أمام تعدد الخليلات.

- إباحة التعدد في ظل شريعة ومقاصد الإسلام، دون تحجير أو تعسف.

والحق أن إلغاء التعدد والدعوة إلى إيقافه، لا تحل المشاكل، بل تزيد من حدتها وتفاقمها. وتزيد –أيضا- من تفشي العنوسة. كما أن إشباع الرغبة الجنسية خارج دائرة الشرع منذر بكوارث عظيمة لا تطاق، من أولاد الزنى، وكثرة الأمراض المتنقلة جنسيا وعلى رأسها السيدا، وخراب البيوت وهلمَّ جرا من المعضلات والنكبات، وجلب سخط الله تعالى.

إذن فلم يبق أمامنا إلا حل وحيد فقط، وهو ممارسة التعدد في ظل الإسلام، مع مراعاة مقاصده وحكمه وأحكامه. فتكون النتيجة الطيبة هي: أن تعدد الزوجات خير من تعدد الخليلات."والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا"

إن سوء تقدير الواقع، وسوء معالجة مشاكله، وتدبير أموره، هو ديدن الدعوات الإيديولوجية، فمتى انطمست البصيرة، وأسدلت على العقل غشاوة الجهل، لا سيما الجهل المركب، إلا وسمعنا بدعوات مجانبة للحقيقة وللواقع.

ومعنى هذا أن تعدد الزوجات يصدق فيه المثل المغربي "المندبة كبيرة والميت فأر" فلو كان دعاة الإلغاء صادقين لقدَّموا لنا إحصائيات دقيقة، حتى نعرف نسبة هذا الذي يشكل "أم المشاكل" للناس، وحتى نقول معهم: لا لتعدد الزوجات. ولكنني أزعم مقررا أن حقيقة تعدد الزوجات نسبته ضئيلة جدا جدا. فلماذا الحرب معلنة عليه.

كوستاف لوبون وتعدد الزوجات

من المؤسف جدا أن نجد بعض المستشرقين ممن يغوص في فهم حضارتنا وديننا وثقافتنا، أكثر من أولئك الذين غلب عليهم التنكر لكل فضيلة أو خير أتى به ديننا الحنيف، أو جاءت به حضارتنا وتراثنا، من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلساننا، "ولكن لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"

يقول العالم والفيلسوف الفرنسي كوستاف لوبون في كتابه الفذ (حضارة العرب)، وقد ألفه سنة 1884م، عن تعدد الزوجات في الشرق: "لا يدرك المرء نظم أمة أجنبية إلا إذا تناسى قليلا مبادئ البيئة التي يعيش فيها وفرض نفسه من أبناء تلك الأمة، ولا سيما إذا كانت تلك النظم من نوع مبدأ تعدد الزوجات الذي لما تعلم حقيقة أمره إلا قليلا فأسيء الحكم عليه.

ولا نذكر نظاما أنحى الأوربيون عليه باللائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما أننا لا نذكر نظاما أخطأ الأوربيون في إدراكه كذلك المبدأ، فيرى أكثر مؤرخي أوربة اتزانا أن مبدأ تعدد الزوجات حجر الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين، ونشأ عن هذه المزاعم الغريبة على العموم أصوات سخط رحمة بأولئك البائسات المكدسات في دوائر الحريم فيراقبهن خصيان غلاظ ويقتلن حينما يكرههن سادتهن.

ذلك الوصف مخالف للحق، وأرجو أن يثبت عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل، بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوربية جانبا، أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطا، ويمنح المرأة احتراما وسعادة لا تراهما في أوربة....

ولا أرى سببا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الأوربيين، مع أنني أبصر بالعكس ما يجعله أسنى منه، وبهذا ندرك مغزى تعجب الشرقيين الذين يزورون مدننا الكبيرة من احتجاجنا عليهم ونظرهم إلى هذا الاحتجاج شزرا." (ص 482-483 -484). وقد طفق لوبون يذكر الأسباب التي جعلت الشرقيين يتمسكون بتعدد الزوجات، واحدة تلو الأخرى.

يتبع 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين