نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة (9)

 

الذبح لغير الله 

* ـ قال بعض المشايخ: 

"مَن يذبحُ لغير الله ـ كمن يذبح للولي الفلاني أو للجني الفلاني أو ينذر له نذرا أو يسأله الشفاعة ـ فهو مشرك". ينذر: بضم الذال وبكسرها. 

أقول: 

من يذبحُ لغير الله تعالى معتقدا جواز الذبح له تقربا إليه كما يُتقرب بذلك إلى الله تعالى فهذا شرك، وأما إذا ذبح لمن اشتَهر أنه ولي لله ـ مثلا ـ معتقدا أن هذا قد يكون سببا في دعاء الولي وشفاعته له عند الله تعالى والوليُّ لا يملك من ذاته شيئا فهذا لا يُعد من الشرك. 

ومن اعتقد أن ذلك الولي أو الجني المسلم يملك الشفاعة من ذاته فقد كفر، وإلا فلا. 

ومن نذر أن يتصدق عند قبره مثلا معتقدا أنه يستحق أن يُتقرب إليه بذلك كما يُتقرب إلى الله تعالى فهذا شرك، وإلا فلا. 

وهل هذا جائز شرعا أو غير جائز؟؟ هذه مسألة ليس محل بحثها هنا. 

هذا وقد وقفت على قول لبعض المشايخ يقول فيه بعد التحذير الشديد من الشرك وذرائع الشرك: "وهكذا الطواف بالقبور، إذا طاف يتقرب بذلك إلى صاحب القبر يكون شركا أكبر، أما إذا طاف يحسب أن الطواف بالقبور قربة إلى الله قصْدُه التقرب إلى الله كما يطوف الناس بالكعبة ليتقرب إلى الله بذلك وليس يقصد الميت فهذا من البدع ومن وسائل الشرك المحرمة". 

وهذا يؤيد ما ذهبت إليه في الجملة من ضرورة التفريق بين عمل وعمل، فقد يكون بعض من يعمل العمل مشركا ويعمله غيره فلا يكون مشركا، وذلك بحسب اختلاف اعتقاد كل منهما وقصده. 

ـ الفرق الكبير بين قول بعض الحنابلة وقول الإمام أحمد ابن حنبل: 

قال الفقيه الحنبلي البربهاري: "لا نخرج أحدا من أهل القبلة من الإسلام حتى يردَّ آية من كتاب الله أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يذبح لغير الله أو يصلي لغير الله، فإذا فعل شيئا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام". 

وقال الفقيه الحنبلي ابن تيمية: "الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام، فهو من الشرك الذي أحدثوه". [دقائق التفسير: 2/ 133]. والظاهر أنه يعني بلفظة الشرك هنا الشرك الأكبر. 

هذا قول بعض فقهاء الحنابلة، يقولون هذا بإطلاق ولا يفرقون بين حالة وحالة!، ولكن ما الذي قاله الإمام أحمد ابن حنبل الذي ينتسبون إليه؟: 

ـ نقل عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله في مسائله عن أبيه جوابه في هذه المسألة فقال: [سألت أبي عمن ذبح للزُهَرة؟. فقال: "لا يعجبني". قلت لأبي: أحرام أكله؟. قال: "لا أقول حرام، ولكن لا يعجبني". قلت لأبي: فرجل يذبح للكوكب؟. قال: "لا يعجبني، أكره كل شيء يُذبح لغير الله"]. []. **

[مسائل الإمام أحمد لولده عبد الله: ص 266، برقم 984، 985]. 

فالإمام أحمد رحمه الله لا يعجبه الذبح للزُهَرة ولا للكواكب، ويكره كل شيء يُذبح لغير الله، ولا يرى أنه من الشرك المخرج من الملة، ولم يفرق بين أن يكون الذابح ممن يدَّعون الإسلام أو من أهل الكتاب أو من غيرهم، ومن المؤكد أنه لو كان الاستفتاء فيمن يظهر من حاله أنه يذبح لغير الله متقربا إليه كما يُتقرب بمثل ذلك لله جل وعلا لما تردد مثقال ذرة في الحكم على فاعل ذلك بالشرك، وعلى الذبيحة بتحريم أكلها، وحيث إنه لم يحكم عليه ولا عليها بذلك فهذا يعني أن مجرد الفعل ـ عنده ـ لا يُعد شركا ما لم يكن فاعله قاصدا المعنى الكفري. 

الإمام أحمد رحمه الله إمام كبير من أئمة أهل السنة، والمظنون فيه أنه لا يغيب عنه الفرق الدقيق بين ما هو من الشرك وما ليس من الشرك. 

ـ قد يقول قائل: لعله لم يبلغه حديث "لعنَ اللهُ من ذبح لغير الله". 

والجواب أنه رحمه الله قد روى هذا الحديث في مسنده من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والروايتان كلتاهما كذلك في صحيح مسلم. 

ـ قد يقول قائل: لعل إمام المذهب قد أخطأ في هذه المسألة، فهو مجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، ونحن يجب علينا أن نعمل بالدليل الشرعي وليس بقول الإمام فيما أخطأ فيه. 

والجواب أن هذا مما لا شك فيه، ولكن قد يخطئ العالم المجتهد في حكم مسألة من مسائل الفقه، أما أن يُتهم مثل هذا الإمام الكبير بعدم فهمه للشرك المخرج من الملة فهذا غير مقبول من قائله. 

ـ أتمنى أن يرجع من يخطـُر بباله مثل هذا الاتهام لمثل ذلك الإمام الكبير إلى ما قاله العلماء في علو درجة الأئمة الأعلام في العلم، وأن يعود باللائمة على قصور فهمه إذا لم يفهم كلامهم. 

كما أتمنى أن يعيد مشايخ الحنابلة النظر فيما يقولونه وفيما قاله إمام المذهب، وفي دراسة الأدلة دراسة هادئة متعمقة، حرصا على فهم حقيقة دين الإسلام، وعلى تبرئة ذلك الإمام الجليل مما قد يُنسب إليه وهو بريء منه. 

ـ نقْل بعض المشايخ في باب التكفير عن الفقيه الشافعي صاحب كتاب الروض ما لم يقله: 

ـ قال بعض المشايخ في مسألة الذبح لغير الله تعالى: [أما كلام الشافعية فقال صاحب الروض رحمه الله: "إذا ذبَح للنبي صلى الله عليه وسلم كفرَ"]. 

أقول: 

صاحب الروض من الشافعية هو إسماعيل بن أبي بكر ابن المقرئ اليمني الفقيه الشافعي المتوفى سنة 837، وليس في كتابه روض الطالب الذي يُسمى اختصارا بالروض ما نسبه إليه الشيخ، فلعله وهِم في ذلك، إذ لم يتعرض ابن المقرئ لمسألة تكفير من ذبح لغير الله تعالى فيه أصلا، وهذا نص ما قاله في كتابه الروض: "لا تحل ذبيحة كتابيٍ للمسيح، ولا مسلمٍ لمحمد أو للكعبة، فإن ذبح للكعبة أو للرسل تعظيما لكونها بيتَ الله أو لكونهم رسلَ الله جاز". 

والذي تعرض لمسألة التكفير هنا هو شارح الروض، وهو القاضي زكريا الأنصاري المتوفى سنة 926 في شرحه المسمى أسنى المطالب في شرح روض الطالب، حيث قال فيه: "لا تحل ذبيحة مسلم لمحمد صلى الله عليه وسلم أو للكعبة أو غيرهما مما سوى الله، لأنه مما أهِل به لغير الله، بل إنْ ذبح لذلك تعظيما وعبادة كفرَ، كما لو سجد له كذلك". 

الذي قاله شارح الروض هو "إنْ ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيما وعبادة كفرَ"، فنقله الناقل "إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفرَ"، والفرق بينهما بعيد بعد المشرق عن المغرب. فلعل الشيخ الناقل وهِم هنا كذلك. 

والذي أقوله هنا هو أنه يجب التثبت في النقل وخاصة فيما يتعلق بنقل الأقوال المتعلقة بالعقائد، فكثيرا ما وقع الاتهام بالكفر والابتداع بسبب وقوع خللٍ في النقل أو تسرعٍ في فهم كلام المنقول عنه. 

هذا وقد كان الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله دقيقا في كلامه، حيث نص على أن من ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيما وعبادة كفرَ، أي بخلاف من ذبح له لغير قصد العبادة، كأنْ يكون الذبح لإطعام القاصدين لزيارة قبره الشريف مثلا، وكذا حيث أفاد أن من سجد للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيما وعبادة كفرَ، أي بخلاف من سجد له سجود تحية مثلا، فهذا لا يكفُر، وأما كونه حراما فهذه مسألة أخرى. 

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين