العشرة المبشَّرون بالجنَّة (4)

 

 

 

عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:

كان رضي الله عنه من السابقين في الإسلام، أسلم على يد أبي بكر، قبل أن يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم نادياً يدعو فيه سراً للإسلام، وكان له مواقف مشهورة في دعم الدعوة وانتشارها وكثرة أتباعها.

وهو من الستة الذين اختارهم عمر رضي الله عنه للشورى، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.

كان رضي الله عنه من الأثرياء الأغنياء الباذلين أموالهم في سبيل الله، وتحقيق مرضاته، ولم يكن للأموال على نفسه هيمنة، بل كان يعتبرها نعمة أنعم الله تعالى بها عليه، ليتخذها وسيلة لبر المحتاجين، وصلة الفقراء والمساكين.

وشهد المشاهد كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبلى فيها بلاء حسناً، وجرح يوم أحد نحو عشرين جراحة، بعضها كان في رجله فعرج منها وما زال يعرج حتى توفي رضي الله عنه.

وبعد الهجرة إلى المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وقد آخى بين المهاجر عبد الرحمن والأنصاري سعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن: إن مالي شطران شطر لي وشطر لك، وإن لي زوجتين أطلق إحداهما لتتزوج منها، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في مالك وأهلك، ولا حاجة لي بهما ولكن دلني على السوق، فاشتغل بالتجارة، وأنعم الله عليه بمال وفير، استعمله في طاعة الله، وقضاء حوائج المسلمين، ومساعدة البائسين، ولم تغره الدنيا وسعتها، بل يعتبرها سبيلاً لعمل الخير، والجهاد في سبيل الله بأمواله ونفسه، فرضي الله عنه.

سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:

كان رضي الله عنه أيضاً من السابقين للإسلام، ويروى أنه كان رابع أربعة، أي بعد أبي بكر، وعلي، وزيد بن حارثة رضي الله عنهم أجمعين. وقد كان حين إسلامه شاباً يافعاً، في السنة السابعة عشرة من عمره، وقد كان باراً بوالدته، إلا أنها لم ترضَ عن إسلامه، وحاولت أن تثنيه عن طريقه فلم تفلح وأخيراً أعلنت إضرابها عن الطعام والشراب، حتى يعودَ إلى دينِ آبائه ورغم أنَّ أمه أشرفت على الهلاك، فإن ذلك لم يحمله على التفكير في الاستجابة لرغبتها، لقوة إيمانه وثباته على دينه وحرصه على رضا ربه، وأنزل الله تعالى في قرآنه:? وَإِن جَ?هَدَاكَ لِتُش?رِكَ بِي مَا لَي?سَ لَكَ بِهِ? عِل?م? فَلَا تُطِع?هُمَا??? [العنكبوت: 8].

وعندما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، كان قلبه يتقطَّر للدماء الزكيَّة التي كانت تذهب حينما يَقتل المسلم أخاه المسلم، ولذلك وقف على الحياد، ورأى أن هذا أسلم له في دينه.

وكان رضي الله عنه من الذين وقفوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله، ومحاربة الكفر والطغيان، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عهود أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم أجمعين، وقد شهد المشاهد كلها مع رسول الله وأبلى فيها البلاء الحسن، وقد تمنَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة أن يحرسه أحدُ أصحابه فتقدَّم سعدٌ لهذه المهمَّة، حرصاً على رضاء رسول الله.

وفي حديث جابر رضي الله عنهما، قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل سعد، فقال صلى الله عليه وسلم: (هذا خالي: فليرني امرؤ خاله) رواه الترمذي، وقال: كان سعد وأم النبي صلى الله عليه وسلم من بني زهرة.

وقد استمرَّ رضي الله عنه يجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الله ولدعم دعوته، حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه ربه سبحانه.

وفي عهد الخليفة عمر رضي الله عنه كان له مواقف عظيمة في القادسية والمدائن وغيرهما فرضي الله عنه.

سعيد بن زيد رضي الله عنه:

كان رضي الله عنه من السابقين الأوائل للإسلام، وكان هو وزوجته أم جميل أخت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما السبب في إسلام عمر، وقد تعرضا لعنف عمر على إسلامهما، قبل أن يشرح الله صدره للإسلام، وقد أخرج البخاري عن قيس بن حازم قال: سمعتُ سعيد بن زيد رضي الله عنه في مسجد الكوفة يقول: والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام أنا وأخته قبل أن يسلم عمر، ولو أنَّ أحداً انقضى للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقاً أن ينقضي.

وقد هاجر إلى المدينة، وشهد المشاهد كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم ما عدا غزوة بدر، فقد كان هو وطلحة رضي الله عنهما في مهمة عسكرية انتدبهما إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان كمن شهد بدرا، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلَّ رضي الله عنه في كفاح ونضال في سبيل الله مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى أن لحق بالرفيق الأعلى، ثم استمرَّ مع خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في جهاده وتضحياته إلى أن توفي رضي الله عنه.

أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه:

اسمه: عامر بن عبد الله بن الجراح، وكنيته: أبو عبيدة، ولقبه: الأمين، كان رضي الله عنه من السابقين للإسلام، على يد أبي بكر رضي الله عنهما، وقد كان إسلامه قبل أن يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم نادياً للدعوة السرية إلى الإسلام.

وفي غزوة بدر تعرَّض لامتحانٍ خطير، لا ينجو منه إلا ذوو النفوس الكبيرة، والعقيدة السليمة، إذ تعرَّض له أبوه، وما وجد بداً من قتله وإشهار سلاحه ضده، انتصاراً للإسلام وحماية له من خصومه، وفيه نزل قوله تعالى:?لَّا تَجِدُ قَو?م?ا يُؤ?مِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?ل?يَو?مِ ?ل?أ?خِرِ يُوَا?دُّونَ مَن? حَا?دَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ? وَلَو? كَانُو?اْ ءَابَا?ءَهُم? أَو? أَب?نَا?ءَهُم? أَو? إِخ?وَ?نَهُم? أَو? عَشِيرَتَهُم?? ? [المجادلة: 22].

روى ابن عساكر عن موسى بن عُقبة رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه على رأس سريَّة إلى أرض الشام، وهي التي سميت غزوة ذات السلاسل.

ولما أوغل عمرو في أرض الشام خاف أن يهزم فطلب المدد من النبي صلى الله عليه وسلم فأمدَّه بسرية من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب، وجعل آمر السرية أبا عبيدة.

فلما وصل المدد على عمرو طلب أن يكون الأمير على الجيش كله وكاد يقع خلاف بينه وبين أبي عبيدة، ولكن إخلاص أبي عبيدة وبُعد نظره وحرصه على وحدة المسلمين، وقوتهم، جعلته يتفادى ذلك كله، بالنزول على رأي عمرو بن العاص، والتفرغ لقتال الأعداء، ومجابهتهم بجيش موحَّد، تحت قيادة واحدة.

وقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ لكل أمة أميناً، وإنَّ أمين هذه الأمَّة أبو عبيدة).

وكانت له رضي الله عنه مواقف مشهودة في بدرٍ وأُحدٍ وغيرهما، مما جعله موضع ثقة للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ومحبة المسلمين وتقديرهم رضي الله عنه.

هؤلاء هم أعلام الهدى، ومنارات الإسلام، الذين سبقوا إلى الانضواء تحت الراية المحمدية، يغترفون من محمد رسول الله، ما يطهر نفوسهم ويزكي أرواحهم، ويجعلهم جنوداً للرحمن، محاربين للشرك والظلم والطغيان، وكانوا جديرين بأن يتوَّجُوا بتاج الرحمن والبشرى بالجنَّة والنعيم المقيم.

بدر القرن العشرين:

إنني وقد أوضحت بعض ما يستحق أولئك الأخيار الأطهار من تقدير وتنويه بسبب مواقفهم المشرِّفة في حفظ بيضة الإسلام، ودعوة الإسلام، ورسالة الإسلام ومقدسات الإسلام، أريد أن أستلهم من مواقف الرسول صلوات الله وسلامه عليه، مع حاطب وغير حاطب، مع الأصحاب الذين زلَّت بهم القدم، ووقعوا في بعض الآثام والأخطاء، إلا أنَّ مشاركتهم في تثبيت الإسلام، ودعم الوجود الإسلامي، بأنفسهم وأموالهم، في غزوة بدر، وغيرها، جعل لهم في الإسلام مقاماً لا يبارى، ومكانة لا تجارى، بحيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

واليوم والإسلام يتعرَّض لمحنةٍ كبرى في احتلال القدس مهوى أفئدة المسلمين، وقبلتهم الأولى، واستيلاء سلطات الاحتلال على المسجد الأقصى المبارك، الذي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وعلى سائر الديار المقدسة، والأوطان المحتلَّة، بحيث يتطلَّب الموقف تضحيات هائلة ونفوساً كبيرة تتجرَّد في مواقفها، وتجنِّد أنفسها وما تملك من أموال وثروات في سبيل معركة، لا تقل خطراً عن معركة بدر الكبرى في آثارها وأبعادها، وإذا كانت معركة بدر في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ثبَّتت قواعد الإسلام، وأرست أركانه، ورفعت رايات الدولة الإسلامية فإنَّ المعركة التي يتطلَّبها الموقف الحالي للمسلمين لا تقل في أبعادها وآثارها لقرون طويلة عن تلك، وإن هذا الوضع يتطلب قيادة إسلامية عربية متجردة عن هواها وأنانيتها، متفرغة للإعداد المادي والمعنوي، حتى ينتصر الحق وترفع راياته، ويعود للمسلمين عزتهم ورفعتهم:? وَلِلَّهِ ?ل?عِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ? وَلِل?مُؤ?مِنِينَ وَلَ?كِنَّ ?ل?مُنَ?فِقِينَ لَا يَع?لَمُونَ? [المنافقون: 8]. وحينئذٍ فإنَّ القيادة التي تتولى ذلك، وتتوصل إلى تلك النتيجة، فرداً أو جماعة تستحقُّ من الله تعالى كل تقدير وإنعام، ومن المؤمنين كل إكبار واحترام، والله سبحانه يختص برحمته من يشاء، وما ذلك على الله بعزيز.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الوعي الإسلامي)، السنة الرابعة عشرة، رمضان 1398 - العدد 165.

الحلقة السابقة هــــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين