حكم تهنئة القريب غير المسلم، برأس السنة (2)

أو الجيران، أو الزميل في العمل وضرورة تحرير محل البحث في الحكم والفتوى

(الرسالة الثانية من ثلاث)

ينبغي التفريق بين المسائل، وأن لا يخلط بينها، فيحكمَ عليها بحكم واحد وهي مختلفة، بل يجب أن تعطى كل مسألة حكمها.

فلو كان أبوك (عافاك الله) مشركا أو نصرانيا أو يهوديا، أو كانت أمك كذلك، أو أخوك أو أختك،

فما حكم تهنئتهم بمناسبة لهم؟

ولو كان لك جار مشرك أو نصراني أو يهودي،

فالتقيت به، فهنأته بمناسبة له،

فما حكم ذلك؟

ولو كان لك زميل أو شريك في العمل، فهنأته بمناسبة له، فما حكم ذلك؟

لا شك أن الحكم يختلف إذا كانوا محاربين عما إذا كانوا مسالمين،

ولا شك أن الجواب يختلف في سؤال: ما حكم حضور حفلاتهم؟

فأما تهنئة غير المسلمين من الأقارب أو الجيران أو الزملاء في العمل،

المسالمين،

فما ينبغي التردد بجوازه،

وإذا اجتمع مع ذلك دعوتهم إلى الإسلام فهو مستحب.

أما حضور حفلاتهم، ومشاركتهم في أفعالهم فهو حرام، إن لم يكن فيها منكرات، فلحرمة التشبه بهم.

وقد قرأت عدة فتاوى،

ومن خيرها وأفضلها وأدقها

فتوى العلامة مصطفى الزرقا رحمه الله تعالى،

قال: (إنّ تهنئةَ الشّخص المُسلِم لمعارِفه النّصارَى بعيدِ ميلاد المَسيح ـ عليه الصّلاة والسلام ـ هي في نظري من قَبيل المُجاملة لهم والمحاسَنة في معاشرتهم،

وإن الإسلام لا ينهانا عن مثل هذه المجاملة أو المحاسَنة لهم، ولا سيّما أنّ السيد المَسيح هو في عقيدتنا الإسلاميّة من رسل الله العِظام أولي العزم، فهو مُعظَّم عندنا أيضًا، لكنهم يُغالُون فيه فيعتقدونَه إلهًا، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.

ومن يتوهَّم أنّ هذه المُعايَدةَ لهم في يوم ميلاده ـ عليه السلام ـ حَرام؛ لأنّها ذات عَلاقة بعقيدتِهم في ألوهيّته فهو مُخطئ، 

فليس في هذه المجامَلة أي صِلة بتفاصيلِ عقيدتِهم فيه وغُلُوِّهم فيها.

وقد نُقل أن نبيَّنا محمّدًا صلى الله عليه وسلم مرّت به وهو بين أصحابه جنازة يهوديّ فقامَ لها، فهذا القيامُ قد كان تعبيرًا عمّا للموت من هيبة وجلال، ولا عَلاقة له بعقيدة صاحب الجنازة.

والمسلِم مطلوب منه أن يُظهِرَ محاسِنَ الإسلامِ واعتدالَه لغير المسلمين، ولا يُجبِرهم إذا كانوا من رعاياه وأهل ذِمّته على اعتناق الإسلام، بل يتسامَح معهم ويترُكهم على ما يُدينون به...

ولا سيِّما أن المسلمَ قد يأتيه في عيده (الفطر والأضحى) معارِفُ له من النّصارى يُهنِّئونه فيه، فإذا لم يَرد لهم الزيارة في عيد الميلاد، كان ذلك مؤيِّدًا لِما يتَّهَم به المسلمون من الجَفوة، وعدم استعدادهم للائتلاف مع غيرهم، والمُحاسَنة في التّعامُل.

وما يقال عن التهنئة بعيد الميلاد يقال عن رأس السنة المِيلادية بطريق الأولويّة، لأن رأس السنة الميلاديّة لا صلة لها بالعقيدةِ، وإنّما هو مجرّد بداية التاريخ .

وقد كان الصّحابة الكرام حين جمعهم سيدنا عمر للمذاكَرة في تعيِين حَدَث يكون مبدأً لحِساب السِّنين (التاريخ) طَرحوا فيما طَرحوا من آراء أن يُعتَمَدَ تاريخ الرومِ، أو تاريخ اليهودِ، فلو كان هذا حرامًا لما عَرَضوه… [رواه أبو عروبة الحراني في الأوائل، وابن جرير الطبري في التاريخ وابن عساكر عن ميمون بن مهران، وهو منقطع، لم يدرك عمر].

لكن هنا نقطة توقُّف مُهِمٍّ يجب الانتباه إليها؛ فإذا كانت تهنئة المسلِم للنّصارى في ذلك مُباحة فيما يظهر، لأنّها من قبيل المجاملة والمحاسَنة في التّعامُل،

فإن الاحتفال برأس السنة الميلاديّة وما يجري فيه من منكَرات هو أمر آخر فيه تقليد واتباع من المسلمين لغيرِهم في عادات وابتهاج ومنكَرات يجعلُها من قَبيل الحَرام). انتهى كلام الزرقا.

ومن فوائد كلام العلامة الزرقا

أولا: التفريق بين التهنئة للقريب أو الجار أو الزميل، وبين حضور حفلاتهم ومشاركتهم.

ثانيا: تخطئة من يتوهم أن هذه التهنئة مرتبطة بعقيدتهم الباطلة.

فشرعنا الحنيف لم ينهنا عن الذين يسالموننا ولم يقاتلونا في الدين،

وكتب السنة والفقه مليئة بالأحكام التي تظهر محاسن الإسلام وحسن تعامله مع المسالمين. 

ففي كتب الفقه والسنة ذكر تهنئة غير المسلم، وعيادته، وتعزيته، وصيغة التعزية،

ومن أبواب صحيح البخاري: 

باب دخول المشرك المسجد، وأورد حديث ربط ثمامة بن أُثال بسارية من سواري المسجد. 

باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط، وأورد حديث أن قريشا أبطؤوا عن الاسلام، فدعا عليهم النبي، فأخذتهم سَنَةٌ حتى هلكوا، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا فادع الله،

فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فسُقوا الغيث. انتهى. 

فرأى المصلحة أن يدعو لهم. 

باب قبول الهدية من المشركين، وأورد قصة سارة وإبراهيم، أعطوها هاجر،

وأهدت يهودية للنبي شاة فيها سم، فقبلها،

وأهدى ملك أيلة للنبي بغلة بيضاء وكساه بردا،

وأهدى أكيدر دومة للنبي جبة سندس.

باب الهدية للمشركين، وقول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم وتقسطوا إليهم}،

وأخرج أن النبي أهدى لعمر حلة، فأرسل بها عمر إلى أخ له بمكة قبل أن يسلم. 

وقالت أسماء بنت أبي بكر: قدمت علي أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟

قال النبي: نعم صِلي أمك.

وفي غير صحيح البخاري أن أمها قدمت بهدايا زبيب وسمن.

قال الحافظ: في الآية بيان من يجوز برّه منهم، وأن الهدية للمشرك إثباتا ونفيا ليست على الإطلاق،

ثم البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابّ والتوادّ المنهي عنه في قوله: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله}. انتهى.

باب عيادة المشرك، وأورد فيه أن غلاما ليهود كان يخدم النبي، فمرض فأتاه النبي يعوده، فأسلم.

قال ابن بطال: إنما تشرع عيادته إذا رجي إسلامه. 

فتعقبه الحافظ فقال: والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى، قال الماوردي: عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة. انتهى.

باب صلة الوالد المشرك، وأورد حديث أسماء في صلتها أمها، قال ابن عيينة: فأنزل الله فيها: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين}.

باب صلة الأخ المشرك، وأورد حديث أن عمر أهدى حلة لأخ له بمكة قبل أن يسلم.

وبعض طلبة العلم

يخلطون العاطفة بإصدار الأحكام، ويهولون! فيقولون: 

سبحـان الله! كيف نهنئ النصارى الكفـار، وقد هـتكوا أعـراض الـمسلمـين! واستباحـوا دمـاءهم! واحـتلوا ديـارهم! 

ولـو أمكـنهم لـقضوا عـلى الإسـلام كلـه!

هكذا يقولون ويهولون! 

ويعمّمون فلا يخصصون! 

وكأننا نتكلم عن جواز التهنئة للصليبيين! أو للحربيين! أو لليهود الغاصبين! أو تهنئة أوباما وترامب وطوني بلير وبوتين ورئيس بورما!!

ثم لا يتنبهون لتناقض كلامهم مع عشرات الأحاديث النبوية!!

دعوكم إخوتي من الخطابية،

فالكلام عن حكم خاص،

وهو تهنئة قريب أو جار أو زميل، مسالمين.

وبعض طلبة العلم يخلطون العاطفة بإصدار الأحكام، فيقولون: بدل أن تتحدثوا عن هذا، تحدثوا كيف نكشف باطلهم، ونبيّن لهم كفرهم، وندعوهم إلى الإسلام!

وكأن تهنئة القريب والجار والزميل تتعارض مع دعوتهم!

إن دعوتهم إلى الله ما ينبغي أن تتوقف،

لكن الدعوة ليست بكلام فحسب، بل دعوتهم تكون أيضا بحسن أخلاقك وحسن معاملتك مع قريبك وجارك وزميلك، فتظهر لهم عظمة الاسلام،

فكم أسلم أناس من جراء مواقف طيبة لمسلم، في معاملة أو مساعدة،

وأيضا تقتنص الفُرص المناسبة فتدعوهم بلسانك إلى دين الله. 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا هادين مهديين، غير ضالين ولا مضلين. 

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين