تكريم الأمهات

الصاوي علي شعلان

الأم الصالحة تبني الجيل الصالح

أوصى الله تعالى في كتابه بتكريم الوالدين ولاسيما الأم في أكثر من آية وفي أكثر من سورة وجاء الأمر بهذا التكريم بعد الأمر بعبادته وحده سبحانه.

ويطيب لي أن أسبق هذه الترجمة بجملة من حديث نبوي أخرجه الإمام أحمد: قال صلى الله عليه وسلم: إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم  إن الله يوصيكم بآبائكم، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب. قال الكاتب: إن المتاعب التي تصيب جسد الطفل تقع في قلب أمه، وإذا بكى لحظة كانت لها عذاب يوم كامل، وفي ذلك امتحان ثباتها وابتلاء صبرها، فهي الجندي المتطوع في ميدان والحنان، إنها شخصية المكافح الصامت المجهول الذي لا ينتظر الأجر، ولا ينشد التهنئة عند النصر، فإذا عاد الفائزون بين أقواس النصر ومواكب الفخار وحفتهم الجماهير بأعلامها وأناشيدها، عادت الأم من كفاحها المقدس مستترة بأجنحة الملائكة، متسامية بمثلها الأعلى عن الزهو الكاذب والرياء الخادع!!

لما أراد الله نجاة موسى عليه السلام وحمله التابوت في اليم إلى القصر الفروعوني الباذخ، لم يفن الطفل قصر فرعون بمن فيه من المراضع والولائد وآلاف الجواري عن أمه التي أرشفته القطرة الأولى من رحيق حنانها، وهكذا احتاجت مملكة فرعون الشاسعة إلى مملكة الأم الصغيرة، فجاءت أخته تقول: [هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ] {القصص:12}. فرده الله إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن!!...
وقد امتن الله على الكليم بنعمة رده إلى أمه، أكثر مما امتن عليه بإقامته بين عظمة الملك وجنان القصور، في مهود النعم الوثيرة والآلاء الوفيرة، ولعل الأعوام القلائل التي أمضاها الكليم في وكر الأمومة وعشر حنوها الهنيء كانت خيراً له من فردوس يحرم فيه عطف الأم الرءوم.

إن الأم تملك في يمينها إلى حد كبير وإلى مدى بعيد مشعل الهداية لأطفالها لتوجيههم إلى الهدف المنشود ولا ينحصر واجبها في تربية حيوانية الطفل في جسمه بل عليها أن تربي فيه العقل والأخلاق، غير مقتصر كفاحها على وقت محدود، بل لحياة هي فوق المساحات والحدود، لأنها تنشئ للوطني وتربي للزمن وتنمي للخلود، إنها غارسة البذور ومتعهدة النبات الذي سينمو ويحمل ثمراً هو في مستقبله فاكهة النعيم، أو زقوم الجحيم!!

فتعلم كل أم أن اللحظة من زمان أمومتها غير مقدرة بثمن، إذ هي أثمن من اللآلئ والجوهر، وهي تملئ الكلمات البارزة في قائمة حياة طفلها وتضع سجل الحساب لمستقبل رجولته، ولقد أثبتت الحوادث الناطقة أن ما يصيب الكون من الفشل والعثار، وما يرتكب من الجرائم الدامية في حياة الرجال و النساء، إنما هو نتيجة الجهل والإهمال من الأمهات اللواتي كان واجبهن يقضي عليهن أن يوجهن أقدام الطفولة في مطلع فجر الحياة الباكرة إلى الصراط المستقيم نحو المثل الأعلى والهدف الرفيع كما شهد التاريخ بأن الذين أناروا سبل الحياة بشعاع العبقرية والنبوغ، وهدوا الإنسانية في خطاها إلى الخير والحق والجمال مدينون بمبادئهم وخطواتهم لتوجيه الأمهات الصالحات اللاتي كانت معارفهن الأولى بمثابة الينابيع الرئيسية لنجاحهم وشهرتهم!

ألم تصنفي طوال حياتك كتاباً أدبياً؟! هذا سؤال وجه إلى إحدى الأمهات من جارة لها، فقالت الأم: بلى لقد صنفت كتابين لا كتاباً واحداً؛ فتساءلت جارتها عن عنوانهما؟ فأجابت الأم: إنهما فلان وفلان، ولداي العزيزان، إنني لم أخط تصنيفي إذن على الورق بل نقشته في قلبي طفلي العزيزين وعقليهما، ورسمت فيهما الدروس التي لن ينسياها لأجعل منهما الكتابين الذين لا ينساهما الزمان، ولا يبلى صحائفهما الجديدان.

يرى المار بالحديقة المضيئة بالميدان التذكاري غير بعيد من لوز أنجلز تمثالاً يطلق عليه حنو الأمهات وهو منظر أخاذ لأم تضم إلى صدرها طفلها البريء وهو ساكن خاشع بين يديها كأنه ملك في سماء الخالق، بينما يشرق وجه الأم بضياء قدسي ساحر تحتجب فيه صنعة المثال، وتحار العين فيما يحيط به من روعة وجلال، وقد نقشت على التمثال تلك العبارة التي يجب أن تجعلها الأمهات دستوراً يحفظنه: إذا سارت الأمور إلى توجيه خاطئ فعلى الأم أن تقوم الاعوجاج، وتعيد الصواب إلى المنهاج، هذا نداء سيبقى إلى الأبد لحناً صامتاً في الأكوان، يترجمه الشعور في قلب كل إنسان.

تلك رسالة الأم البارة بوطنها، فهي التي تستطيع بروحها الطاهرة أن تطارد المخاوف وتجبر العظم الكسير وتنهض القدم العاثرة.

وتشفي القلوب المحطمة، وفي أنسام يدها الرحيمة وإشعاع ابتساماتها المشرقة وسحر كلماتها العذبة تتوافق الأنغام الشجية لنشيد السعادة الدائمة على طول السنين، وهي على الدوام منبع دائم للإيحاء نحو الشجاعة والأمل.

ومهما ارتقى الإنسان إلى تذليل العقبات، وبلوغ أوج الشهرة والثراء، ومهما سبح في لجج من نعيم الحياة وهناءتها، فهو مدين لأول إنسان علم قدميه كيف تخطوان، وعلم يديه كيف تعملان، وأرشد عقله إلى نور العرفان، وأنطق لسانه بالكلمة الأولى يوم نطق اللسان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين