نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة (8)

 

الحلف بغير الله 

 

* ـ وقريب من دعاء المخلوق: الحَلِف به، لأن الحَلِف يتضمن تعظيم المحلوف به. 

قال ابن تيمية: "مَن حلف بالمخلوقات ـ كالحلف بالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك وغير ذلك ـ فإن هذه ليست من أيمان المسلمين، بل هي شرك". [مجموع الفتاوى: 34/ 208]. وقال: [الأيمان نوعان: أيمان المسلمين، وأيمان غير المسلمين، فالحلف بالمخلوقات كالحلف بالملائكة والمشايخ والكعبة وغيرها من أيمان أهل الشرك لا من أيمان المسلمين، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وصححه الترمذي، وفي الصحيحين "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"، فالحلف بالمخلوقات لا ينعقد، ولا كفارة فيها إذا حنث]. 

لكن قد يقسم بعض الحالفين بمخلوق من الصالحين وهو يريد بذلك أنه يقسم بالفضل الإلهي على ذلك العبد الصالح فهذا ليس بكفر، لأنه بحَلِفِه به ـ على هذا الوجه ـ لم يجعله لله ندًّا، وهل هذا جائز أو غير جائز؟ تلك مسألة أخرى. 

ولا بد من مراعاة الفرق بين الاعتقادين، لئلا يقع الخلط في أحكام التكفير، وويل للمتسرعين فيها!. 

وقد ذكر ابن تيمية نحو هذا، فقال: "اتفق العلماء - فيما نعلم - من الصحابة والتابعين والأئمة على كراهة الحلف بغير الله والنهي عنه، فمن حلف بغير الله فقد جعل لله ندًّا، فإن فعل هذا معتقدًا لعبادته فهو كافر، وإن لم يكن معتقدًا فهو مشرك في القول دون الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة، كما قالوا شرك دون شرك"!. 

فمَن أقسم بغير الله تعالى إذا كان يعتقد أن من أقسم به يستحق التعظيم الذي يؤهله للإقسام به كما يُحلف بالله تعالى فهذا كافر لا شك فيه، أما من أقسم بغير الله وهو غير معتقد لذلك فهذا ليس بكافر. 

ـ ومن هذا الباب إباحة الإمامِ أحمد رحمه الله وفقهاءِ الحنابلة الحَلِفَ بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن حلف به صلى الله عليه وسلم معتقدا أنه يستحق المقام الذي يؤهله لأن يقسم به الحالفون كما يقسمون بالله فهذا كفـْر، وحاشا الإمامَ أحمد وفقهاءَ الحنابلة أن يجيزوه، ومن حلف به غير معتقد لذلك فهذا لا يكفر بذلك الحَلِف، وكأنه يقول "أقسمُ يا رب بالإكرام الذي أكرمتَ به محمدا صلى الله عليه وسلم إذْ أنعمتَ عليه بالنبوة والدرجة الرفيعة والمقام المحمود"، ومن لم يفهم هذا الفرق الدقيق فالإمام أحمد ابن حنبل ـ حسب فهمه ـ وكذا فقهاء المذهب الحنبلي وسائر فقهاء الإسلام الذين نقلوا هذا القول ولم ينكروه كفار خارجون من الملة!، وحاشاهم من ذلك، ونعوذ بالله من هذا الضلال. 

هذا وقد قال الزركشي من فقهاء الحنابلة في شرح مختصر الخرقي: "استثنى عامةُ الأصحاب الحلفَ برسول الله، فجعلوا الحلف به يمينا مُكَفـَّرة، ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب". أي: فجعلوا الحلف به يمينا منعقدة واجبة التكفير عنها في حالة الحِنث، وأخذوا ذلك من نص الإمام أحمد في رواية أبي طالب عنه. 

وقال المرداوي من فقهاء الحنابلة في كتاب الإنصاف: "قال أصحابنا تجب الكفارة بالحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وهو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وهو من مفردات المذهب". []. 

[قال ابن تيمية: "أما الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم فجمهور العلماء على أنه منهي عنه ولا تنعقد به اليمين ولا كفارة فيه، هذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وعنه تنعقد به اليمين". [مجموع فتاوى ابن تيمية: 33/ 125]. أقول: الذي وجدته في كتب الحنابلة هو ما تقدم نقله من كلام الزركشي والمرداوي ولم يذكروا عن الإمام أحمد غير ذلك]. 

ـ وهنا يُقال: إذا كان ذلك كذلك فلمَ يُحكم على من طلب الشفاعة في الدنيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور بأنه مشرك؟!، ألأن رسول الله ميت؟!، نعم، هو ميت من حيث الحياة الدنيوية ولكنه حيٌّ من حيث الحياة البرزخية، فالأنبياء أحياء في قبورهم يصلون، ولقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على موسى عليه السلام وهو قائم يصلي في قبره، وهذا رواه مسلم من حديث أنس، ورُوي من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم. 

* ـ يقول بعض المتسرعين في التكفير: 

إن ما يفعله مَن يدْعون أنبياء الله وأولياءه اليوم هو عين ما كان عليه أهل الجاهلية، فقد كانوا يدْعون الموتى من الصالحين ويحلفون بهم ويسألونهم الشفاعة ويتقربون بذلك إلى الله تعالى، فحُكِم عليهم بأنهم مشركون، فلمَ لا يُحكم على من يدْعون أنبياء الله وأولياءه اليوم بأنهم مشركون؟!. 

أقول: 

لقد كفر أهل الجاهلية إذ كانوا يدْعون الموتى من الصالحين معتقدين أنهم يستحقون أن يُتقرب لهم بالسجود والخضوع والتعظيم والدعاء الذي لا يليق إلا بالله كما يُتقرب بذلك لله جل وعلا، وهذا شرك في الإلهية، ولذا كان سجودهم لهم ودعاؤهم إياهم وحَلِفهم بهم عبادة لهم وشركا من الشرك الأكبر، وكانوا يعتقدون أن أولئك المعبودين يملكون من ذواتهم الشفاعة والضر والنفع، وهذا شرك في الربوبية، وقالوا {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، فقد كانوا يعبدونهم، والعبادة في الدين الحق لا تكون إلا للواحد الأحد الفرد الصمد سبحانه وتعالى، وقد قالوا متعجبين ومستنكرين {أجعل الآلهة إلها واحدا؟!}. 

قد تجد اليوم جماعة من المسلمين يقصدون قبور بعض الأولياء بالزيارة ويطوفون حولها ويطلبون من أصحابها المدد والغوث بمعنى أن يشفعوا لهم عند الله سبحانه، ولا يعتقدون فيهم أنهم يملكون لا لهم ولا لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يعتقدون فيهم شيئا من الربوبية أو الإلهية، ويعتقدون أنهم عباد مكرَمون يستجيب الله تعالى شفاعتهم فيمن يشفعون له، فهؤلاء إذا كانوا هكذا فليسوا مشركين، والخلاف بينهم وبين من لا يرى جواز ذلك هو في المشروعية، أي في أن هذه الأمور هل هي جائزة أو مكروهة أو محرمة؟، فبين قضية التكفير وقضية المشروعية فرق كبير وبون شاسع. 

أما من يقصدون قبور بعض الأولياء بالزيارة ويطوفون حولها ويطلبون من أصحابها المدد والغوث ويعتقدون فيهم أنهم يملكون لهم من أنفسهم ضرا أو نفعا فهؤلاء إذا كانوا هكذا فهو مشركون. 

وكل من قال قولا فهو مطالَب بالدليل من الكتاب والسنة، فمن أتى بدليل صحيح فعلى الرأس والعين، وإلا فاضربوا بقوله عُرْض الحائط. 

انظر الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين