نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة (7)

 

دعاء الأموات والاستغاثة بهم

لقد أمر الله تعالى العباد بدعائه، وبيَّن رسوله عليه الصلاة والسلام أن الدعاء من العبادة، والفعل لا يكون عبادة إلا إذا اقترن باعتقاد الربوبية أو الإلهية.

وعلى هذا فمن دعا غير الله معتقدا أنه يملك العطاء والمنع والضر والنفع من ذاته فقد أشرك، ومن دعا غير الله معتقدا أنه لا يملك من ذاته شيئا وأنه لا يدعوه إلا من حيث إن الله تعالى أذن له بشيء من التصرف في بعض الأشياء: فهذا لا مجال للحكم عليه بالشرك، والخلاف معه هو في المشروعية. 

فإن قلتَ: هل يعطي الله بعضَ عباده التصرفَ في شيء من المخلوقات بأمره وإذنه؟. 

فيجيبك ابن القيم رحمه الله في كتاب التبيان في أقسام القرآن فيقول: "أما دلالة الـمُقَسِّمات أمْرًا وهم الملائكة فلأنَّ ما يُشاهَد من تدبير العالم العلوي والسفلي وما لا يُشاهَد إنما هو على أيدي الملائكة، فالرب تعالى يدبر بهم أمر العالم، وقد وكـَّل بكل عمل من الأعمال طائفة منهم، فوكل بالشمس والقمر والنجوم والأفلاك طائفة منهم، ووكـَّل بالموت طائفة، وبحفظ بني آدم طائفة، وبكل شأن من شؤون العالم طائفة". 

وينبني على هذا وعلى ما قدمته من أن مجرد الفعل لا يكون بذاته شركا أنه لو نادى المسلمُ وقد انقطعت به السبل في أرض فلاة "يا عباد الله أعينوني" قاصدا معونة الملائكة الموكـَّلين بحفظ بني آدم مثلا فهذا ليس من الشرك البتة. 

ـ قول الإمام أحمد رحمه الله بالجواز: 

روى عبدُ الله بنُ الإمام أحمد في سؤالاته عن أبيه رحمهما الله أن أباه قال: "ضللت الطريق في حَجة وكنت ماشيًا، فجعلت أقول يا عباد الله دلونا على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقفتُ على الطريق". []. 

[هذا القول هو في سؤالات عبد الله بن أحمد لأبيه، وراوي النسخة عنه هو أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن الصواف، وهو ثقة. ورواه البيهقي في الشعب عن الإمام الحافظ أبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك عن أحمد بن سلمان النجاد الفقيه الحنبلي عن عبد الله بن أحمد ابن حنبل رحمهم الله. أحمد بن سلمان الفقيه بغدادي صدوق، قال الخطيب البغدادي: قال الدارقطني: حدَّث من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله. وعلق على ذلك بقوله: كان قد كُف بصره في آخر عمره فلعل بعض طلبة الحديث قرأ عليه ما ذكره الدارقطني. مات سنة 348 عن 95 عاما. فالقول المنقول عن الإمام أحمد رحمه الله هنا له طريقان عن ولده عبد الله، ونسبته للإمام صحيحة ثابتة]. 

والظاهر أن الإمام أحمد رحمه الله كانت منه هذه المناداة عملا بالحديث الموقوف على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان وفي الآداب عن ابن عباس أنه قال: "إن لله ملائكة فُضْلا سوى الحفظة يكتبون ورق الشجر، فإذا أصابت أحدَكم عرجة في سفر فليناد: أعينوا عباد الله رحمكم الله". وسنده فيه لين، ورواه ابن أبي شيبة كذلك مرسلا مرفوعا بلفظ: "إذا نفرت دابة أحدكم أو بعيرُه بفلاة من الأرض لا يرى بها أحدا فليقلْ أعينوا عباد الله، فإنه سيُعان". والأصح أنه موقوف من قول ابن عباس. 

وقال البيهقي في كتاب الآداب عقب رواية هذا الأثر: "هذا موقوف على ابن عباس، مستعمَل عند الصالحين من أهل العلم، لوجود صدْقه عندهم فيما جربوا". []. 

[هذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان وفي الآداب من طرق عن أسامة بن زيد الليثي عن أبان بن صالح بن عمير عن مجاهد عن ابن عباس. أسامة بن زيد الليثي مدني صدوق فيه لين. أبان بن صالح بن عمير مدني ثقة. مجاهد بن جبر مكي ثقة. هذا السند موقوف على ابن عباس، وفيه لين. ورواه البزار في مسنده من طريق آخر عن أسامة بن زيد عن أبان بن صالح به نحوه مرفوعا، وهذا وهَم من الراوي. ورواه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نفرت دابة أحدكم أو بعيرُه بفلاة من الأرض لا يرى بها أحدا فليقلْ أعينوا، عبادَ الله، فإنه سيُعان". والأصح أنه موقوف على ابن عباس. ورواه أبو يعلى في مسنده وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني في المعجم الكبير من طريقِ معروفِ بنِ حسان السمرقندي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن بريدة عن عبد الله بن مسعود. معروف بن حسان السمرقندي ضعيف منكر الحديث. فهذا الإسناد شديد الضعف]. 

ولو كان هذا الحديث ـ عند أولئك المحدثين ـ من الشرك الأكبر أو مما فيه ذريعة إلى الشرك لمَا رووه في كتب الحديث دون إنكار. 

ـ لا يُقال هنا لمَ لمْ يَدْعُ الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله ربه عز وجل ودعا بعض العباد؟، لأنه قد يكون دعا ربَّ العباد جلَّ وعلا من حيث هو رب العباد ومالك الأسباب ودعا العبادَ من حيث هم من الأسباب، وكأنه يقول "يا رب أسألك بما جعلتَ في أولئك العباد من مقام إنجاد الملهوفين أن تفرج عني كربتي بإنجادهم الممنوحِ لهم من قِبَلك". 

ـ ولا أدري بعد هذا ما الذي يقوله المنكرون عن الإمام أحمد ابن حنبل وولده عبد الله وعلماء الحنابلة الذين ذكروا تلك الحكاية دون إنكار وعن الصالحين من أهل العلم الذين أشار إليهم الإمام البيهقي؟!، وما الذي يقولونه عن الأئمة المحدثين الذين رووا ذلك الحديثَ الواردَ في هذه المسألة في كتب الرواية ساكتين عليه كالإمام أبي بكر بن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى والطبراني وابن السني والدارقطني والبيهقي؟!، هل هم ـ عندهم ـ لا يعرفون ذرائع الشرك؟!. 

وإذا كان هذا جائزا في الملائكة فإنه يجوز ـ عند بعض شرائح المسلمين ـ في غير الملائكة كذلك. 

وأكرر القول: ليست المسألة هنا مسألة إثبات المشروعية أو عدمِها، ولكنها مسألة إثبات أن مثل هذا الفعل هل هو من الشرك الأكبر أوْ ليس من الشرك الأكبر؟. 

ـ فمن دعا نبيا من أنبياء الله تعالى أو وليا من أوليائه قائلا "يا سيدي المددَ المددَ" معتقدا أنه يملك من ذاته شيئا من العطاء والمنع والضر والنفع فهو مشرك، ومن دعاه معتقدا أنه لا يملك من ذاته شيئا من ذلك وأن روحه تسبح في الملكوت وتنجد الملهوفين بإذن الله فهذا لا يمكن أن يُحكم عليه بالشرك، وذلك لأنه لم يجعله بذلك القول شريكا لله تعالى لا في الربوبية ولا في الإلهية. []. 

[يحسن هنا الإشارة إلى أن شيخ الطريقة الصوفية الرفاعية السيد أحمد بن علي بن أحمد الرفاعي المتوفى سنة 578 رحمه الله يقول في الحِكَم: "تصرُّفُ الروح لا يصح لمخلوق". انظر: الحِكَم للسيد أحمد الرفاعي: رقم 82. ومن أقواله رحمه الله مما له صلة بهذا الباب أنه قال: "لا تعملْ عملَ أهل الغلو فتعتقدَ العصمة في المشايخ أو تعتمدَ عليهم فيما بينك وبين الله، فإن الله غيور، لا يحب أن يدخِل العبدُ فيما آل إلى ذاته بينه وبين الله أحدا، نعمْ، هم أدلَّاء على الله، ووسائل إلى طريقه، ويُؤخذ عنهم حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، {رضي الله عنهم ورضوا عنه}، نتوسل إلى الله برضا الله عنهم، لا يخزي الله عبادَه الذين أحبَّهم، وهو أكرم الأكرمين". أدلَّاء جمع، مفرده دليل، وهو هنا الذي يدلك على الله تعالى، وأظن أنني نقلته من كتابه "حالة أهل الحقيقة مع الله"، وقد غابت عني الآن الورقة التي نقلته فيها. وقال في البرهان المؤيد: "أيْ سادة، إذا استعنتم بعباد الله وأوليائه فلا تشهدوا المعونة والإغاثة منهم، فإن ذلك شرك، ولكن اطلبوا من الله الحوائج بمحبته لهم، ربَّ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"]. 

ـ ومما يتصل بهذا المبحث ما قاله الإمام الآجري المتوفى سنة 360 رحمه الله في كتاب الشريعة في وصف سيدنا علي رضي الله عنه، فقد قال فيه: "فارس العرب، ومفرج الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". []. 

الشريعة للآجري: 4/ 1756، 2017. 5/ 2137، في باب ذكر خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي باب فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفي باب فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما. 

وقد يصعب جدا على من هو بعيد عن معرفة أساليب العرب في البيان واستعمال المجاز أن لا يكفر الإمام الآجري رحمه الله، وهو الذي وصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء بالإمام المحدث القدوة، ولا يخفى على كل ذي لب أن الآجري لو اعتقد أن عليا رضي الله عنه يملك من نفسه تفريج الكرب لكان هذا شركا، وحاشاه من ذلك، وما من شك في أنه كان يعتقد أن الله جل وعلا أعطاه من القوة والشجاعة ما يقاتل به الأعداء فينكف بذلك شرهم وتنفرج الكربة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من حيث إنه قد جعله الله تعالى سببا في ذلك. 

انظر الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين