نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة (4)

 ـ الفرق بين الإيمان والإسلام: 

ـ تعريف الإيمان بالأمور الاعتقادية هو الذي دل عليه حديث جبريل الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما بارزا للناس، إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخِر". قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان". ثم سأله عن الإحسان وعن الساعة. []. [صحيح البخاري: 1/ 19. صحيح مسلم: 1/ 39 ـ 40]. 

ورواه مسلم عن عمر بن الخطاب أنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، قال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله وتقيمَ الصلاة وتؤتيَ الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا". قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمنَ بالقدر خيره وشره". []. [صحيح مسلم: 1/ 36]. 

وجاء في آخر الروايتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم". 

ومما يؤكد هذا المعنى في تفسير الإسلام ما رواه الشيخان عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائرَ الرأس يُسمع دوي صوته ولا يُفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة". ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام رمضان، ثم الزكاة، والرجل يقول في كل مرة: هل علي غيرها؟. ورسول الله يقول: "لا، إلا أن تطـَّوَّع". فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق". []. [صحيح البخاري: 1/ 18. صحيح مسلم: 1/ 40]. 

ـ من أهم المسائل التي جاء جبريل عليه السلام ليعلمها للناس من أمر دينهم هي تحديد وتلخيص الفرق بين الإيمان والإسلام، أما تفصيل أعمال الإيمان والإسلام فكانت معروفة لديهم من قبل. 

قال ابن رجب رحمه الله في خلال شرحه لحديث جبريل في جامع العلوم والحكم: "فأما الإسلام فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل، وأولُ ذلك شهادة أنْ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأما الإيمان فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة". []. [1/ 98]. 

ـ فإن قيل: لا يستقيم هذا التفريق بين الإيمان والإسلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان في بعض الأحاديث بما فسر به الإسلام في حديث جبريل، وفسر الإسلام في بعض الأحاديث بما فسر به الإيمان في حديث جبريل، فالجواب أن هذه الاستدلالات ضعيفة لا يُعتمد عليها: 

ـ من تلك المرويات حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس، وفيه قول ابن عباس "فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع"، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟: شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله وإقامُ الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس". فقد جاء تفسير الإيمان هنا ـ حسب الظاهر ـ بما فـُسر به الإسلام! 

لكن الأمر ليس كذلك، وإلا لكان قد أمرهم بخصلة واحدة وفسرها بأربع خصال، وينافيه قول ابن عباس بأنه أمرهم بأربع، والواقع هو أنه أمرهم بالإيمان أولا وفسره بالشهادتين، وأمرهم بعده بثلاث خصال. []. 

[روى البخاري ومسلم وغيرهما من طريق شعبة بن الحجاج عن أبي جمرة نصر بن عمران عن ابن عباس أنه قال في حديث وفد عبد القيس: فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله، وإقامُ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس". وجاء تفسير الإيمان هنا ـ حسب الظاهر ـ بما فـُسر به الإسلام!. ولكن طريق شعبة هذا فيه جزء معلول بعلة الإدراج، وهو ذكـْر الصوم فيه، وذلك لأن البخاري ومسلما وغيرهما رووه من طريق عباد بن عباد وحماد بن زيد وقرة بن خالد عن أبي جمرة عن ابن عباس به نحوه دون ذكر الصوم، ورواية هؤلاء أصح، فهم جماعة، ولأنه لو كان طريق شعبة صحيحا لكان قد أمرهم بخمس خصال وليس بأربع، وهذا بخلاف قول ابن عباس "فأمرهم بأربع". هذا وقد أوضحتْ إحدى الروايات عن حماد بن زيد في صحيح مسلم مفتاحَ الحل، حيث جاء فيها "شهادة أنْ لا إله إلا الله، وعقد واحدة"، وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعدما ذكر لهم الإيمان وتفسيرَه بشهادة أنْ لا إله إلا الله ـ عقد بأصابعه ما يدل على أنه قد ذكر خصلة، وذلك على ما تعارفت عليه العرب من الدلالة بالأصابع على العدد، وهذا يستدعي أن يذكر لهم بعد ذلك ثلاث خصال، وهي التي تتم بها الخصال أربعا. وعلى هذا فليست كل الخصال المأمور بها في هذا الحديث تفسيرا للإيمان، وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر الإيمان بالشهادتين والصلاة والزكاة وأداء الخمس من المغنم، وأنه إنما فسره لهم بالشهادتين فقط، وأنه ذكر لهم بعد تفسير الإيمان: الصلاةَ والزكاة وأداءَ الخمس من المغنم، تتميما للخصال الأربع المأمور بها]. 

ـ ومنها قول ابن عمر ـ في بعض الطرق عنه ـ: "إن الإيمان بني على خمس: تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان، كذلك قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقد جاء تفسير الإيمان هنا كذلك بما فـُسر به الإسلام!. 

واللفظ الذي جاء في هذه الرواية غير صحيح، والصواب أنه بلفظ "بُني الإسلام على خمس". []. 

[روى ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن جرير بن عبد الحميد الرازي عن منصور بن المعتمر عن سالم بن أبي الجعد عن عطية مولى بني عامر عن يزيد بن بشر أنه قال: قدمت المدينة فدخلت على عبد الله بن عمر، فأتاه رجل من أهل العراق، فقال ابن عمر: "إن الإيمان بني على خمس: تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان، كذلك قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم". وجاء تفسير الإيمان هنا كذلك بما فـُسر به الإسلام!. وهذه الرواية للحديث هي من الأوهام، فيزيد بن بشر راويه عن ابن عمر رجل مجهول، وقد اضطرب في لفظ الحديث، فقد روى ابن حنبل في مسنده قصة الرجل السائل وجوابَ ابنِ عمر له من طريق سفيان الثوري عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن يزيد بن بشر عن ابن عمر بلفظ "بُني الإسلام على خمس"، وكذلك رواها البخاري من طريق نافع عن ابن عمر بلفظ "بُني الإسلام على خمس"، وليست بلفظ "بُني الإيمان". وبذلك يتبين بطلان قول من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر الإيمان في هذه الرواية بما فسر به الإسلام في حديث جبريل]. 

ـ ومنها حديث عمرو بن عبَسة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فأي الإسلام أفضل؟. قال: "الإيمان". قال: وما الإيمان؟. قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت". فقد جاء تفسير أفضل أعمال الإسلام هنا بالإيمان وبما فـُسر به الإيمان!. ولكن سنده ضعيف ومعلول. []. 

[روى عبد الرزاق ـ وعنه أحمد ابن حنبل وعبد بن حُميد ـ عن معْمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عبد الله بن زيد عن عمرو بن عبَسة أنه قال: قال رجل: يا رسول الله ما الإسلام؟. قال: "أن يسلِم قلبُك لله وأن يسلـَمَ المسلمون من لسانك ويدك". قال: فأي الإسلام أفضل؟. قال: "الإيمان". قال: وما الإيمان؟. قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت". قال: فأي الإيمان أفضل؟. قال: "الهجرة". وجاء تفسير أفضل أعمال الإسلام هنا بالإيمان وبما فـُسر به الإيمان!. وهذا السند ضعيف ومعلول: فأما كونه ضعيفا فلأن أبا قلابة ثقة يرسل ولم يصرح هنا بما يدل على السماع، فالسند فيه شبهة الانقطاع، ويؤكد ذلك ما قيل من أن روايته عن عمرو بن عبسة مرسلة، كما جزم به المزي، فهذا إسناد ضعيف. وأما كونه معلولا فلأن مسددَ بنَ مسرهد والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما والقاضيَ إسماعيل في أحاديث أيوب السختياني ومحمدَ بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة وأبا نعيم في معرفة الصحابة والبيهقيَّ في الشعب رووه من طريق إسماعيل ابن علية وحماد بن زيد وسفيان الثوري عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن رواية الجماعة هي الصواب، وتبين بها أن أبا قلابة لم يروه عن عمرو بن عبسة، وإنما رواه عن ذلك الرجل المبهم عن أبيه. والسند الذي فيه راويان مبهمان هو شديد الضعف. وبذلك يتبين بطلان قول من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر الإسلام في هذا الحديث بما فسر به الإيمان في حديث جبريل]. 

ـ والشهادتان: التصديقُ بهما مع الإذعان والانقياد القلبي إيمان، والنطق والتلفظ بهما إسلام، وهو مفتاح الإسلام، والانقياد العملي لما توجبانه هو تمام الإسلام، وهو ثمرة الإيمان. 

ـ خلاصة الأمر في الإيمان والإسلام أن الإيمان ـ في غير الدرجة الدنيا منه ـ هو عقيدة صحيحة أثمرت عملا صالحا، وأن الإسلام المقبول هو عمل صالح مؤسس على عقيدة صحيحة، وهذا هو الدين، لأن الدين يشمل مجموع الإيمان والإسلام. 

ومن ههنا فقد يأتي التعبير بأي واحد منهما بما يشملهما كليهما، وكثيرا ما يأتي التعبير عن الإيمان والمؤمنين بما يشمل الاعتقاد والقول والعمل جميعا، ومن ذلك النصوص التالية: 

قال الله تعالى {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا}. 

وقال تعالى: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا}. 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". []. [صحيح مسلم: 1/ 63]. 

ولذا فقد قال جماعة من السلف في بيان الإيمان الذي ينجي العبدَ من عذاب الله: "الإيمان اعتقاد بالجَنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان". أي: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بأعضاء البدن. 

وإذا فهمنا هذا القول على أن الأعمال ثمرات الإيمان أو أجزاء مكملة للإيمان فهذا صحيح، وهذا ما كانوا يقصدونه بقولهم هذا. 

أما إذا فهمنا هذا القول على أن الأعمال من أركان الإيمان ـ كما أنَّ غسْل الوجه من أركان الوضوء وكما أنَّ الركوع من أركان الصلاة وكما أن الوقوف بعرفة من أركان الحج ـ فهذا غير صحيح، لأن كل عبادة من هذه العبادات تكون باطلة إذا نقص منها ركن من أركانها، ويلزم ـ على القول بأن الأعمال من أركان الإيمان ـ أن مَن ترك فريضة واحدة أو ارتكب كبيرة واحدة فقد أبطل إيمانه وخرج منه بالكلية وصار مع المشركين الشركَ الأكبر، وهذا قول الخوارج، وهو متوافق في النتيجة مع قول المعتزلة الذين لا يكفرون تارك الفريضة ومرتكب الكبيرة، ولكنهم يقولون هو في منزلة بين المنزلتين وهو مخلد في النار. 

وهذا كله مخالف لقول أهل السنة، الذين يجمعون بين نصوص الكتاب والسنة الواردة في المسألة ولا يضربون بعضها ببعض، والذين لا يكفـِّرون العبد بتركه الفرائضَ وارتكابِه الكبائر إذا كان مؤمنًا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر خالصا من قلبه ومعظمًا لله جل وعلا ولِما أمر الله بتعظيمه. 

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين