نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة (3)

 

ـ الإيمان ومراتبه وثمراته: 

ـ أصل الإيمان محله القلب، وإلى هذا المعنى جاءت الإشارات القرآنية الكريمة، فقد قال الله تبارك وتعالى {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}، وقال تعالى {قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم}، وقال تعالى {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكنْ من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}. 

وقال تعالى {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات}، وقال سبحانه في آيات كثيرة من آيات الذكر الحكيم {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، والعطف يقتضي التغاير، فالإسلام غير الإيمان، والإيمان غير الإسلام، وهذا يعني أن أركان الإسلام وسائر أعمال الإسلام ليست أجزاء من الإيمان، ولكن هي أجزاء من الدين الذي يشمل الإسلام والإيمان كليهما. 

ووردت إشارة إلى هذا المعنى في الحديث الذي رواه ابن حنبل وأبو داود وأبو يعلى وابن حبان والطبراني في المعجم الكبير عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته". 

وروى ابن أبي شيبة وابن حنبل وغيرهما من طرق عن علي بن مسعدة أنه قال: حدثنا قتادة قال حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب". ولكن سنده ضعيف. []. 

[] مصنف ابن أبي شيبة 11/ 11. مسند الإمام أحمد 19/ 394. مسند أبي يعلى 5/ 301. الإبانة الكبرى لابن بطة 2/ 796. علي بن مسعدة بصري ضعيف. 

ـ الإيمان في الدرجات العليا قوي يثمر الانقياد لله جل وعلا بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وكلما كان الإيمان في قلب العبد المؤمن أقوى كانت ثمراته أكثر وأطيب، والثمرات هي الأعمال الصالحات، ولذا فقد جاءت مقرونة بالإيمان في قـُرابة خمسين موضعا من القرآن الكريم، منها قوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا، خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلا}. فالأعمال الصالحات هي ثمرات الإيمان. 

ومما يؤكد أن الأعمال الصالحات هي ثمرات الإيمان وليست جزءً منه أن الله تبارك وتعالى جعل الإيمان شرطا لقبولها، فقد قال تعالى {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما}، وكون الإيمان شرطا لقبول الأعمال الصالحات يفيد أنه ليس هو إياها، وأنها ليست جزء منه. 

وإذا لم يرتقِ الإيمان عن الدرجات الدنيا فإن الثمرات تكون قليلة وضعيفة، ويكون صاحبُها مقصرا في فعل ما أمر الله بفعله أو مرتكبا لما أمر الله باجتنابه، فيكون بذلك مستحقا للعذاب الأليم في نار جهنم. أعاذنا الله تعالى منها بفضله وكرمه. 

وأما إذا كان الإيمان في أدنى الدرجات على الإطلاق فإنه لا يثمر عملا صالحا البتة، فيدخل صاحبُه النار، ويمكث فيها ما شاء الله أن يمكث، فترة أطولَ مما يمكث فيها مَن قبله، بحيث لا تشمله شفاعة الشافعين في مراحلها الثلاث الأولى، وإنما يخرج بعدها بشفاعة أرحم الراحمين جل وعلا. 

ـ لا بد من الإشارة هنا إلى التحذير من سوء عاقبة أمثال هؤلاء، فقد قال الله تبارك وتعالى على لسان ولد آدم لأخيه {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين}، وقال تعالى {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وترهقهم ذلة، ما لهم من الله من عاصم، كأنما أغشِيتْ وجوههم قطعا من الليل مظلما، أولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون}، وقال تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين، ولـَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم}. 

فالنار تنتظر الظالمين وأصحابَ الآثام والسيئات، جزاء لهم على سوء ما اقترفوا في الدنيا، ويمكث كل واحد منهم في العذاب الأليم مدة من الدهر حتى يُنقــَّى من الذنوب، ثم تدركه الشفاعة إذا كان قد مات على الإيمان. 

والذي تدركه الشفاعة يخرج من النار ـ بعدما يناله من العذاب الأليم ـ ولا يُخلد فيها، فقد روى الإمام البخاري عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الشفاعة: "فأستأذنُ على ربي، فيُؤذن لي، ويلهمني محامدَ أحمَدُه بها لا تحضرني الآن، فأقول يا رب أمتي أمتي، فيُقال انطلقْ فأخرجْ مَن كان في قلبه مثقالُ شعيرة من إيمان، فأنطلقُ فأفعلُ، ثم أعود فأحمَده بتلك المحامد، فيُقال انطلق فأخرجْ منها من كان في قلبه مثقالُ ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلقُ فأفعل، ثم أعود فأحمَده بتلك المحامد، فيقول انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجْه من النار، فأنطلقُ فأفعل، ثم أعود الرابعة فأحمَده بتلك المحامد، فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرِجن منها من قال لا إله إلا الله". والمراد: قول "لا إله إلا الله" مع قرينتها "محمدٌ رسول الله". 

والمرحلة الرابعة من الشفاعة هي ما أكدتها رواية الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها في صحيح البخاري "فيقول الجبار تعالى بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما، فيقول أهل الجنة "هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه"، وفيها في صحيح مسلم "فيقول الله عز وجل شفـَعَتِ الملائكة وشفـَع النبيون وشفـَع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرِج منها قوما لم يعملوا خيرا قط". 

أي فيخرِج ربنا بواسع رحمته كلَّ مؤمن ليس عنده من الإيمان سوى أقلَّ من أدنى أدنى أدنى مثقالِ حبة خردل من إيمان، وهؤلاء لم يثمر ذلك القدر الضئيل الذي عندهم من الإيمان شيئا من العمل الصالح، ولذا فقد وُصفوا بأنهم "لم يعملوا خيرا قط". فهمْ بعد العذاب الأليم الذي يمتد بهم الفترات الطويلة في جهنم يكون مآلُ أمرهم الخروجَ من النار وعدمَ التخليد الأبدي فيها. []. 

[يظن بعض الناس أن هذه الكلمة في صحيح مسلم "فيخرِجُ منها قوما لم يعملوا خيرا قط" غير محفوظة، لأن أكثر روايات هذا الحديث ـ في ظنه ـ ليس فيها هذه الزيادة، وظنه هذا غير صحيح، فرواية صحيح البخاري التي لم تأتِ فيها هذه الكلمة هي من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، وأما الرواية المشتملة عليها فقد رواها مسلم في صحيحه من طريق حفص بن ميسرة، ورواها الإمام أحمد من طريق معْمر، ورواها ابن خزيمة من طريق هشام بن سعد، ثلاثتهم عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، فقد رواها ثلاثة من الرواة عن زيد بن أسلم، فلا يضرهم أن راويا آخر لم يذكرها، والزيادة التي اجتمع على روايتها ثلاثة لا مناص من الحكم لها بالثبوت والرجحان]. 

ومما يؤكد هذا المعنى الأحاديثُ النبوية الشريفة في أن من مات وليس عنده سوى كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" دخل الجنة، أي إن هذه الكلمة تنجيه من التخليد في عذاب جهنم وتجعل مآل أمره دخولَ الجنة، منها ما رواه مسلم في صحيحه وابن خزيمة في التوحيد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة". 

ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا الكافرُ والمشركُ والمنافقُ كفرًا أكبرَ وشركًا أكبرَ ونفاقًا أكبرَ، فإنه لا يخرج من النار أبدا، ولا تناله الشفاعة في أي مرحلة منها، فالحذرَ الحذرَ، ونعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه. 

ـ لا بد من التنبيه هنا على ما وقع فيه بعض من صنفوا في الإيمان، فقد كتب بعض الناس في هذا الباب وكان جلُّ كلامه منصبا على الإيمان الذي هو في المراتب العليا، وهو المنجي من عذاب الله فلا يدخل أهلـُه النار أبدا، وهو الذي جاء ذكره في كثير من الآيات القرآنية الكريمة، كقوله تعالى {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تـُليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا}، وفي عدد من الأحاديث النبوية الشريفة، كقوله صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". وهذا رواه مسلم بنحوه من حديث أبي هريرة. 

والكلام بتطويل في الإيمان الذي هو في المراتب العليا وبلمحة عابرة في الإيمان الذي هو في المراتب الدنيا قد يوهِم أنه لا يوجد إيمان إلا إيمان أهل المراتب العليا، فلا بد ـ في مقام الحاجة للبيان ـ من التوضيح، لئلا يقع القارئ في ذهول عن إيمان أهل المراتب الدنيا، وهو الإيمان الذي لا ينجي من عذاب الله ولكنه ينجي من التخليد في عذاب الله، إذ يدخل أهلـُه النارَ ثم تدركهم الشفاعة فيخرجون منها ثم يدخلون الجنة، وهو الذي جاء ذكره في أحاديثَ نبويةٍ شريفة، كما سبقت الإشارة إلى بعضها في خروج عصاة المؤمنين من النار بالشفاعات الأربع ودخولهم الجنة بعد ذلك، وقد يستحكم مثل هذا الذهول في أذهان بعض الناس فيحكم على كثير ممن عندهم إيمان أهل المراتب الدنيا بالخروج من الملة والتخليد في النار. وويلٌ ثم ويلٌ لمن يكفـِّر من لا يستحق التكفير. 

وما أشدَّ معاناةَ الأمة ـ في سفك دماء أبنائها واستباحة حرمات حرائرها ـ إذا انتشر فيها مثل هذا الجهل بحدود ما أنزل الله، وكأنها لا يكفيها ما يفتك بها أعداؤها من خارجها من قتل وتدمير وتشريد وانتهاك حرمات حتى يأتي أعداؤها من داخلها وأبناء جلدتها فيجْهزوا على البقية الباقية منها!، وإلى الله المشتكى. 

الحلقة السابقة: هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين