معاذ بن جبل الصحابي الشاب العالِم المجاهد

بدأت طلائع النور تضيء يثرب مُذ أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليها صاحبه مصعب بن عمير داعية ومعلماً، وكان من أوائل مَن آمن على يده معاذ بن جبل بن عمرو، ذلك الفتى الخزرجي الذي لم يبلغ الثامنة عشرة عاماً، وقد منحه الله حدّة في الذكاء، وروعة في البيان، وعلوّاً في الهمّة، مع جمال الصورة. يصفُه الواصفون بأنه كان أسمر، أكحل العين، جَعْد الشعر، برّاق الثنايا، بهيّ الطلعة، يملأ عين الناظر إليه.

وقد شَرُف هذا الفتى فكان من الاثنين والسبعين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة.

ومذ عاد إلى يثرب جمع حوله بعض رفقائه فكانوا ينتزعون الأوثان من بيوت المشركين في السر أو في العلن. وكان عمرو بن الجموح من سادات بني سلمة، وقد اتخذ لنفسه صنماً من الخشب النفيس، فكان يُعنى به ويدهنه بالعطور... لكن معاذاً ورفقاءه تسلّلوا إلى هذا الصنم ليلاً وسحبوه وألقوه في حفرة تجمع فيها الأقذار. وتفقّد عمرو صنمه حتى وجده في هذا الوضع المهين فأخرجه وغسله وعطّره وتوعّد من تسوِّل له نفسه أن يمس الصنم بسوء. لكن الفتية أعادوا الكرّة مرتين وثلاثاً، فكان في ذلك خيرٌ كبير لشيخ بني سلمة إذ عرف تفاهة هذا الصنم. نعم لقد أسلم عمرو بن الجموح وحسُن إسلامه، وكتب الله له الشهادة في غزوة أُحُد (3هـ).

وحين شرّف الله يثرب بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم وصارت المدينةَ المنورة، كان الفتى معاذ ممن يلازم النبي صلى الله عليه وسلم في حلّه وترحاله، في مسجده وفي أسفاره وغزواته، فصار وعاءً للعلم والفقه، ومِن أقرأ الصحابة وأعلمهم بشرع الله، حتى شهد له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر... وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل...". رواه الترمذي وغيره (حديث حسن صحيح). وقال: "خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة". رواه البخاري. وشهد له الفاروق عمر فقال: "... مَن أراد أن يسأل عن الفقه فليأتِ معاذ بن جبل". أخرجه ابن سعد. وقال أيضاً: "عجزت النساء أن يلدْنَ مثل معاذ، ولولا معاذ لهلك عمر". [من الإصابة لابن حجر 3/426]. وقال: "لو استخلفتُ معاذ بن جبل فسألني عنه ربي.. لقلتُ: سمعتُ نبيّك صلى الله عليه وسلم يقول: إن العلماء إذا حضروا ربهم عز وجل كان معاذ بين أيديهم رَتْوَةً بحجر". [من صفة الصفوة لابن الجوزي. والمعنى: يتقدّمهم بخطوة].

وكان معاذ من القلائل الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى مسلم أن الأوس والخزرج تفاخرتا، فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة حنظلة بن الراهب، ومنا من اهتزّ له العرش سعد بن معاذ، ومنا من حمتْهُ الدبْرُ عاصم بن ثابت، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت. فقالت الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجمعه غيرهم: زيد بن ثابت، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد". [أبو زيد هو أحد عمومة أنس بن مالك].

ولما كان فتح مكة أمّر النبي صلى الله عليه وسلم عليها عتّاب بن أسيد وجعل معه معاذاً ليفقّه الناس في الدين ويعلمهم القرآن وشرائع الإسلام.

وأخرج ابن سعد في طبقاته عن التابعي مسروق بن الأجدع قال: شاممتُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [أي تعرفت أحوالهم ومكانة كل منهم] فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: عمر وعلي وعبد الله [بن مسعود] ومعاذ وأبي الدرداء وزيد بن ثابت. رضوان الله عليهم.

ولهذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تحدّثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا إليه، هيبة له، وتعظيماً لعلمه.

وإذا كانت هذه مكانته في العلم والفقه والقراءة... فلا عجب أن يوصي بالعلم والتعلّم. فمن أقواله في ذلك: "تعلّموا العلم، فإن تعلّمَه لله خشية، وطَلَبَه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلم صدقة، وبذْله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، والأنس في الوحشة، والسلاح على الأعداء. يرفع الله به أقواماً، ويجعلهم في الخير قادة وأئمة". [مختصراً من "جامع بيان العلم" لابن عبد البر].

ولما جاءت وفود اليمن تعلن إسلامها، وتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث معها من يفقهها في الدين، اختار لهم بعض أصحابه وأمّر عليهم معاذاً. وقال صلى الله عليه وسلم: "أتاكم أهل اليمن، هم أرقُّ أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية". رواه البخاري.

وأوصى معاذاً: "إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادْعُهُم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتّقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". رواه البخاري.

وقد يمارس معاذ القضاء هناك، لذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من منهج معاذ في القضاء، فقال له: "يا معاذ، كيف تقضي إذا عَرَضَ لك قضاء؟ قال معاذ: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنّة رسول الله. قال: فإن لم تجد في سنّة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر معاذ وقال: الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يرضى به رسولُ الله". رواه أبو داود والترمذي.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُقسم بالله أنه يحبّ معاذاً ثم يوصيه، ويوصينا معه. فأي شرف حازه هذا الصحابي!!:

عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: "يا معاذ، والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ: لا تدعَنَّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادك". رواه أبو داود بإسناد صحيح.

ومشى النبي صلى الله عليه وسلم تحت راحلة معاذ يودّعه، ومعاذ راكب، وأطال المشي، ثم أوصاه: "يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا... ولعلك أن تمرّ بمسجدي وقبري...". فبكى معاذ، وصدقت نبوءة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فلم يَنْعَم معاذ برؤية حبيبه بعد ذلك، لأنه عاد إلى المدينة وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وولي الخلافة أبو بكر رضي الله عنه، وتاقت نفس معاذ إلى الجهاد، وقد غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم بضعاً وعشرين غزوة، فاستأذن أبا بكر أن يخرج إلى بلاد الشام لقتال الروم ونشر الإسلام، وكان عمر يرى أن بقاء معاذ في المدينة أكثرُ نفعاً للمسلمين، لكن أبا بكر قال: رجل أراد وجهاً يريد الشهادة فلا أحبسه".

وحين تحركت جيوش المسلمين لفتح بلاد الشام كان معاذ واحداً منهم فشهد اليرموك وأكثر معارك الشام، وكان مستشاراً عسكرياً وفقيهاً للقائدَين شُرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، وقد جاء في وصية أبي بكر لقائده شرحبيل: "... فإذا نزل بك أمر تحتاج إلى رأي التقي الناصح فليكن أول مَن تبدأ به أبا عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل...".

وفي خلافة الفاروق كتب أمير بلاد الشام يزيد بن أبي سفيان إلى عمر ليُعِينه برجال يعلّمون الناس ويفقهونهم، فدعا عمر الخمسة الأجلّاء: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبيّ بن كعب وأبا أيوب الأنصاري وأبا الدرداء وقال: انتدبوا ثلاثة منكم. فقالوا: إن أبا أيوب شيخ كبير، وأما أبيّ فسقيم [ضعيف البدن مريض]، فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء. فقال عمر: ابدؤوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يفقه سريعاً، فوجّهوا إليه طائفة من الناس، وليقُم منكم معه واحد، وليخرج واحد إلى دمشق والآخر إلى فلسطين. فأقام عبادة بحمص، ورجع أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين.

يقول أبو مسلم الخولاني: دخلتُ مسجد حمص فإذا فيه نحوٌ من ثلاثين كهلاً من الصحابة، وفيهم شاب أكحل العينين، برّاق الثنايا، لا يتكلم، فإذا شكّوا في مسألة أقبلوا عليه فسألوه. فقلت: من هذا؟ فقالوا: معاذ بن جبل. فوقع في نفسي حُبّه.

ومرَّ عمر بمعاذ وهو يبكي فقال: ما يبكيك يا معاذ؟ قال: حديثٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى الرياء شركٌ، وأحبُّ العبيد إلى الله تبارك وتعالى الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يُفتَقَدوا، وإذا شَهدوا لم يُعرفوا. أولئك أئمة الهدى، ومصابيح العلم". أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وقضى الله أن يقبض إليه معاذاً وهو في شرخ الشباب؛ ابن أربع وثلاثين سنة، فقد استعمله عمر على الشام بعد وفاة أبي عبيدة بطاعون عمواس، فكان أن أصيب كذلك بالطاعون، وتوفي سنة ثماني عشرة للهجرة، ودفن بناحية الأردن.

فلمّا حضرته الوفاة استقبل القبلة وجعل يردّد هذا النشيد:

مرحباً بالموت مرحباً...

زائرٌ جاء بعد غيابٍ...

وحبيبٌ وفدَ على شوق...

ثم جعل ينظر إلى السماء ويقول:

اللهم إنك كنتَ تعلمُ أني لم أكن أحب الدنيا وطولَ البقاء فيها لِغَرسِ الأشجار، وجري الأنهار...

ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكَبِ عند حِلَقِ الذكْر...

اللهم فتقبّل نفسي بخيرِ ما تتقبّل به نفساً مؤمنة.

ثم فاضت روحه الطاهرة بعيداً عن الأهل والعشير...

داعياً إلى الله، مهاجراً في سبيله.

اللهم ارضَ عن معاذ بن جبل وعن سائر أصحاب نبيّك صلى الله عليه وسلم واحشرنا معهم في جنة الخُلد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين