تفسير سورة الهمزة

سبق أن فسرنا سورة العصر، واليوم نفسر سورة الهمزة، مستعينين بالله تعالى فنقول: (ويل) مبتدأ خبره (وَيل لِّكُلِّ هُمَزَة لُّمَزَةٍ) وساغ الابتداء به مع كونه نكرة لأنه دعاء عليهم بالهلكة، والهمز الكسر، و اللمز الطعن، وقال مجاهد: الهمز باليد والعين، و اللمز باللسان.

وقد شاعا في الطعن في أعراض الناس، و بناء فُعَلَه يدل على أن ذلك عادة مستمرة قد ضرى بها، وقرئ [لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ] {الهمزة:1}. بسكون الميم وهو الذي يأتي بالأضاحيك.

قيل نزلت في الأخلس بن شريق فإنه كان مشغوفاً بالغيبة والوقيعة، وقيل في أمية بن خلف، وقيل في الوليد بن المغيرة.

واختصاص السبب لا يستدعي خصوص الوعيد بهم، بل كل من اتصف بوصفهم القبيح فله ذنوب كبرى مثل ذنوبهم.

[الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ] {الهمزة:2}.نكر المال للتفخيم والتكثير كما يدل عليه قوله [وَعَدَّدَهُ] أي جمع بعضه على بعض وأحصى عدده، وهو مثل قوله تعالى:[وَجَمَعَ فَأَوْعَى] {المعارج:18}.قال السعدي وابن جرير: ألهاه جمع ماله بالنهار، فإذا كان بالليل نام كأنه جيفة منتنة.

[يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ] {الهمزة:3} أي: يعمل عمل من يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار. أو نقول: طوَّل المال أمله ومناه الأماني البعيدة حتى أصبح لفرط غفلته، وطول أمله يحسب أن المال تركه خالداً في الدنيا لا يموت، وقد قيل إن هذا تعريض بالعمل الصالح والزهد في الدنيا، وأنه هو الذي أخلد صاحبه ف الحياة الأبدية والنعيم القيم، أما المال فليس بخالد ولا بمخلد، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل (جمع).

(كلا) ردع له عن ذلك الحسبان الباطل (لينبذن) الجملة جواب قسم مقدر، وهي استئناف مبين لعلة الردع، أي والله ليطرحن بسبب تعاطيه لما ذكر [فِي الحُطَمَةِ] أي في النار التي من شأنها أن تحطم وتكسر كل ما يلقى فيها كما أنه كان شأنه كسر أعراض الناس والطعن فيهم.

[وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ] لتهويل أمرها ببيان أنها ليست من الأمور التي تنالها عقول الخلق (نار الله) خبر مبتدأ محذوف، والجملة لبيان شأن المسؤول عنها أي هي نار الله (الموقدة) بأمر الله عز سلطانه [الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ] أي: تعلو أوساط القلوب وتغشاها، وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد وأشده تألماً بأدنى أذى يمسه، أو لأنه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة، ومنشأ الأعمال السيئة.

[إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ] أي: مطبقة من أوصدت الباب وآصدته أي: أطبقته.

[فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ] أي: موثقين فيها بأن تؤصد عليهم الأبواب، وتمدد على الأبواب العمد استيثاقاً في استيثاق.

هذا، ومن تأمل في هذه السورة ظهر له العجب العجاب من التناسب، فإنه لما بولغ في الوصف في قوله تعالى:(همزة لمزة) قيل الحطمة للتعادل، ولما أفاد ذلك كسر الأعراض قوبل بكسر الأضلاع المدلول عليه بالحطمة، وجيء بالنبذ المنبئ عن الاحتقار في مقابلة ما ظن الهامز اللامز بنفسه من الكرامة، ولما كان منشأ جمع المال استيلاء حبه على القلب جيئ في مقابله بقوله:[الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ] {الهمزة:7} ولما كان من شأن جامع المال المحب له أن يؤصد عليه قيل في مقابله:[إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ] {الهمزة:8}.ولما تضمن ذلك طول الأمل قيل [فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ] {الهمزة:9}. وقد رأيت أن أثبت هنا بيتن من نظمنا القديم لما لهما من المناسبة وهما:

تمضي علينا ليال ثم يعقبها=أيام لهو بها أيامنا صرمت

نلهو ونلعب والأعمار ذاهبة=والموت يفجؤنا والنفس ما اتعظت

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الأزهر، المجلد الخامس عشر، جمادى الأولى 1363 - الجزء 5 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين