تحقيق القول في *الوقوف العشرة* المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل (5)

*وبيان بطلان* هذه النسبة.

*الجواب عن ثلاثة من الإيرادات والشُّبه والإشكالات*

الإيراد الثالث:  قد يقول قائل: إن البتّ في المسألة والقضية من اختصاص علماء القراءات، فيرجع لأقوالهم، فما لكم تذكرون المحدّثين وأن الوقوف العشرة لم ترد في كتب السنّة؟

فالجواب: 

أولًا: لو سلمنا جدلًا أن هذا من اختصاص علماء القراءات،

فها هو عالم كبير من علماء القراءات، وهو الشيخ عبدالفتاح القاضي رحمه الله تعالى، ينص على عدم صحتها، وهو يذكر أنه فتش فلم توجد الوقوف في كتب السنة ولا كتب التفسير ولا كتب القراءات والوقوف.

ثم إن المختصين بالقراءات والمصنفين في علم الوقوف، لم يذكروا هذه الوقوف عبر قرون طويلة.

ثانيًا: الحق يقال، إن التنقيب والتفتيش عن الوقوف العشر، والقول بثبوتها أو نفيها،

هو من اختصاص المحدّثين،

فثمة فرق واضح بين نقل القراءات من فرش ونحوه،

فهو من اختصاص القراء،

وبين أشياء أخرى، مثل نسبة الوقوف العشرة إلى النبي وأن جبريل كان يَقِفُه عليها ويؤكد على الوقف عليها،

فهذا خبر نقلي من اختصاص علماء الحديث،

وأشياء أخرى هي من اختصاص الفقهاء، كحكم الاستعاذة والبسملة، وهل البسملة من السور أم لا؟

وأشياء أخرى اجتهادية،

مثل اختيار بعض أهل الأداء - لمن يسكت بين السورتين - البسملةَ في الأربع الزهر، وردّ عليهم السخاوي في فتح الوصيد، وغيرُه.

ومثل علم الوقوف، وقد قدمت النصوص أن لكل قارئ من السبعة وغيره اجتهادات في الوقوف، وكذا للعلماء من بعدهم، كل منهم يجتهد، ويوافق غيره في أشياء، وينتقده في أشياء،

فليس الحال كما يظن بعض طلبة القراءات: أن كل ما يتلقاه عن شيخه من فرش ووقوف إنما هو مأخوذ عن شيخه عن شيخ شيخه إلى رسول الله!

وللحافظ ابن حجر كلام نفيس في فتح الباري، في حكم التلفيق بين القراءات،

يبين فيه أن هذا من اختصاص الفقهاء، لا القراء.

فذكر الحافظ ابن حجر شروط إثبات القراءة مثل الإمام ابن الجزري وغيره قال: (والأصل المعتمد عليه عند الأئمة في ذلك أنه الذي يصح سنده في السماع، ويستقيم وجهه في العربية، ويوافق خط المصحف).

والحافظ نقله ملخصًا من كتاب الإبانة للإمام مكي.

ثم قال الحافظ: 

(واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: فاقرؤوا ما تيسر منه، على جواز القراءة بكل ما ثبت من القرآن بالشروط المتقدمة، وهي شروط لا بد من اعتبارها، فمتى اختل شرط منها لم تكن تلك القراءة معتمدة، وقد قرر ذلك أبو شامة في المرشد الوجيز تقريرًا بليغًا…

فلو اشتملت الآية الواحدة على قراءات مختلفة مع وجود الشرط المذكور جازت القراءة بها *بشرط أن لا يختل المعنى، ولا يتغير الإعراب*.

وذكر أبو شامة في المرشد الوجيز أن فتوى وردت من العجم لدمشق سألوا عن قارئ يقرأ عشرًا من القرآن فيخلط القراءات؟

فأجاب ابن الحاجب وابن الصلاح وغير واحد من أئمة ذلك العصر بالجواز بالشروط التي ذكرناها، 

كمن يقرأ مثلًا: {فتلقى آدم من ربه كلمات} فلا يقرأ لابن كثير بنصب آدم، ولأبي عمرو بنصب كلمات،

وكمن يقرأ {نغفر لكم} بالنون {خطيئاتكم} بالرفع! قال أبو شامة: لا شك في منع مثل هذا، وما عداه فجائز، والله أعلم.

قال الحافظ ابن حجر: 

وقد شاع في زماننا من طائفة من القراء إنكارُ ذلك، حتى صرح بعضهم بتحريمه! فظن كثير من الفقهاء أن لهم في ذلك معتمَدًا، فتابعوهم وقالوا: أهل كل فن أدرى بفنهم.

وهذا ذهول ممن قاله، فإن علم الحلال والحرام إنما يُتلقى من الفقهاء، والذي منع ذلك من القراء إنما هو محمول على ما إذا قرأ برواية خاصة، فإنه متى خلطها كان كاذبًا على ذلك القارئ الخاص الذي شرع في إقراء روايته، فمن أقرأ رواية لم يحسن أن ينتقل عنها إلى رواية أخرى كما قاله الشيخ محيي الدين النووي، وذلك من الأولوية لا على الحتم، أما المنع على الإطلاق فلا، والله أعلم.

انتهى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.

ستكون الرسالة الأخيرة رقم 6، إن شاء الله،

في بيان حكم الوقوف العشرة أو السبعة عشر، من حيث التجويد.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين