صور من الحياة في العصر النبوي(5)والأخيرة

 

ذكرت في حلقات أربعة ماضية: أن حياة المجتمع الإسلامي وأسواقه، كانت في صدر الإسلام حافلة بالمِهَن والحِرَف والصناعات، التي تعجُّ بالنشاطات المعيشية، والاقتصادية، المتنوعة. وأوردت ذكر بعص الحرف والمهن ذات الطابع الحضاري ـ كما يطلق عليها اليوم ـ وأتابع في هذه الحلقة الخامسة الأخيرة بذكر حِرَف ومِهَن أخرى، ومن ذلك ما يلي:

11 ـ حرف ومهن أخرى:

عرف المجتمع الإسلامي في عصوره الأولى أعمالاً ومِهَناً وحِرَفاً أخرى غير ما تقدم، ومن ذلك: صياغة الذهب وبيْعُه، وكان يقال لمحترفها: صائغ، وعُرِفتْ حِرَف ومِهَن: كالنِّجارة، والصباغة، والدِّباغة، والخِرازة، والسمسرة، وبيع الأدوية والعقاقير الطبية الشعبية، والتجارة في العنبر.

ومن ذلك أيضا: النِّقاشة ـ حِرْفة نقش الخواتم ونحوها ـ وسِقاية الماء وتوصيلها إلى البيوت، وكان يقال لصاحبها: سقَّاء، وكان هناك الخباز، والطباخ، والبنَّاء، واللبَّان ـ بائع اللَّبَن ـ والختَّان، والخَوَّاص، وهو الذي يصنع القفاف والسلال من خوص شجر النخيل وورقِه، وبها اشتغل سلمان الفارسي الصحابي المعروف.

وتذكر الروايات التاريخية: أنه كان هناك حِرفيون يصنعون الأنوف والأسنان من المعادن النفيسة، كالذهب والفضة، وقد يشْبِكون الأسنان المصنوعة من الذهب ويشدون بعضها إلى بعض بجسر، وهذا يدلُّ على دقة الصَنْعة، وعظيم المهارة، وبالغ الإتقان، ونحو ذلك مما بلغته تلك الأيادي الحِرَفية والنشاطات المهنية، في ذلك الوقت المبكر من تاريخ الإسلام.

ومما يروى في هذا الصدد: أن عرفجة بن أسعد التميمي قُطِع أنفه في معركة تُسمَّى: يوم الكُلاب، في الجاهلية، فصُنِع له أنفٌ من فضة، فأنتن وتغيَّر، وتجمع فيه الوسخ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتَّخذ أنفا من ذهب.

وتذكر الروايات التاريخية أيضاً: أن عددا من الصحابة شدُّوا أسنانهم بالذهب، منهم عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن الزبير. كما تذكر: أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان كانت أسنانه مشبَّكة بالذهب.

ومن الحرف والمهن الأخرى: عملُ الأعضاء والأجزاء الصِناعية البديلة لجسم الإنسان، من الخشب والجلد والمعادن، وذلك عوضاً عن الأجزاء المصابة، وقد ذكروا: أن الشاعر الأموي خلف بن خليفة صُنعت له يد من جلد لها أصابع، وكان يستعملها في تناول الأشياء والإمساك بها، بدل يده التي قطعت بسبب آفة ألمَّت بها.

وكان بعض الناس يتكسَّبون بمهنة صنع المُجَسَّمات ورسم الأشخاص، والأماكن، والحيوانات، والمناظر الطبيعية، وفي صحيح البخاري وغيره: أن رجلاً جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما يستفتيه قائلاً: إني رجل معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير ـ أي: رسوم الأشخاص والحيوانات ومجسَّماتهم ـ فقال له ابن عباس: ارسم الشجر وما لا روح فيه.

الخاتمــة:

هذه صور مجملة عن المهن والحرف ونحوها من النشاطات الاقتصادية والمعيشية التي كانت منتشرة في عصر النبوة وصدر الإسلام، وهي تعطي انطباعاً حضارياً متقدماً عن ذلك المجتمع الناهض، الذي كافح ليثبت وجوده في ذلك الوقت القياسي القصير والعصيب.

وقد كانت أغلب هذه الحرف والنشاطات تمارَس في الأسواق والطرقات والأزقَّة، في أماكن ثابتة أو مواضع متنقلة. وقد أُفْرِد لبعضها أسواق خاصة تناسب السلع والنشاطات المتداولة، حيث يجتمع أهل الحرف أو المهن الواحدة المتماثلة في سوق محدد ومكان معروف، وغالباً ما يكون هذا في وسط البلد أو قريباً منه.

روى الطبراني أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت موضعاً للسوق، أفلا تنظر إليه؟ قال: بلى، فقام معه حتى جاء موضع السوق، فلما رآه أعجبه، وضرب برجله الأرض وقال: نِعْمَ سوقُكم هذا.

وفي رواية لابن ماجه: أنه ذُهِبَ به أولاً إلى مكان يقال له: النَبَط ـ وكانت أرضه رطبة ترشح بالماء ـ فنظر إليه فقال: ليس هذا لكم بسوق، ثم مشى حتى موضع السوق ـ الآنف الذكر ـ فطاف فيه ثم قال: هذا سوقكم.

 

هذه معالم من تاريخنا المجيد فيها ذكرى وعبرة لشبابنا اليوم، لعلَّهم يَغُذُّون السير ويجدُّون في الاعتماد على أنفسهم، والإفادة من طاقاتهم، وثروات بلادهم، وقدراتهم الإبداعية، بعيداً عن التواكل والبطالة، فيسهمون في تحقيق مزيد من الدخل المالي، والعزة والرفعة والسعادة لأنفسهم وأهليهم، والتقدم والنمو والازدهار لأوطانهم.

انتهت الحلقات الخمسة

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين