الاجتهاد الجماعي في العصر الحاضر(5)

 

3 - وأما الجهاز الإداري والطريق العملي للقيام بهذه المهمة فهو في رأيي المتواضع كما يلي: 

أ‌- يؤسس مركز عالمي لهذا الغرض في مدينة إسلامية كبيرة، مثل كراتشي وبيروت والقاهرة، ويضم هذا المركز على الأقل عشرة فقهاء كبار بتخصصات مختلفة. فإن هذا العصر هو عصر الاختصاص والتخصص والتعمق في فرع من فروع العلوم، لأن العلوم تشعبت والمكتبات كثرت، والتآليف تدفقت، ولم يعد بإمكان أحد أن يستوعب جميع ما كتب ويكتب في العلوم الإسلامية وفيما يحتاج إليه في الاجتهاد الجماعي، ولا يستطيع أحد أن يحوي فرعا من الفروع أو علما من العلوم كلها. والمسائل أصبحت معقدة، فما من قضية إلا ولها صلة بعديد من العلوم والاختصاصات، فلما لم يكن للمجتهد معرفة بجميع تلك العلوم والاختصاصات التي لها صلة بحل تلك القضية الواحدة لا يمكن له أن يبدى رأيه في قضية واحدة، فما ظنك في القضايا المستحدثة كلها. فلا يمكن استفراغ الوسع إلا بمعرفة جميع هذه العلوم واستخدامها في الاجتهاد الجماعي. ولنأخذ مثلا قضية تطبيق نظم الزكاة والعشر في دولة إسلامية حديثة، فإذا أردنا أن نضع لهذا الغرض لائحة في ضوء الشريعة الإسلامية فسوف نحتاج فيها إلى معرفة الآيات المتعلقة بالزكاة مع جميع ما ذكره الفقهاء والمفسرون من التفاصيل حول العام والخاص والمطلق والمقيد والمفسر والمجمل والمحكم والمتشابه ودلالة المنطوق ودلالة الفحوى ودلالة النص وإشارته واقتضاءه وعبارته وغير ذلك، ثم نحتاج إلى معرفة كل ذلك من الأحاديث المتعلقة بالموضوع بالإضافة إلى سندها ورواتها وجرحهم وتعديلهم وتأويل المختلف من هذه الأحاديث، ثم إلى معرفة الأحكام الفقهية المجمع عليها واختلاف الفقهاء واجتهاداتهم وأدلتهم فيها، ثم إلى معرفة علم الأصول وما إليه من علم القواعد الكلية والفروق والأشباه والنظائر، ثم إلى معرفة الاقتصاد الوضعي، ونظام البنوك، والمؤسسات المالية، ونظام الضرائب، والنظم الحكومية، ونظام الزراعة، وعلم الحساب والرياضيات، وعلم الكمبيوتر وغير ذلك مما يطول ذكره، فلابد أن يكون في المركز إخصائيون مختلفون متعمقون في هذه الفروع المختلفة.

ب‌- تؤسس مراكز فرعية لهذا المركز الرئيسي في جميع المدن الإسلامية الرئيسية، ويضم كل فرع على الأقل عشرة أشخاص، منهم أعضاء وأعضاء منتسبون. ونعنى بالأعضاء المنتسبين جماعة من العلماء الذين يستفاد من علمهم وخبرتهم في مجالات مختلفة ولا يكونون أعضاء كاملين لعدم بلوغهم إلى الدرجة المطلوبة من العلم بالشريعة الإسلامية، ويضم كل مركز فرعى جماعة من المترجمين الأكفاء الذين يقدرون أن يترجموا البحوث الفقهية من اللغة العربية إلى لغتهم المحلية وبالعكس ليتمكن الأعضاء المنتسبون من إبداء آرائهم في الموضوع المطروح.

ج ـ تنشر جريدة رسمية شهرية لهذا المركز باللغة العربية، وترسل إلى جميع المراكز الفرعية، وتنشر فيها آراء الفقهاء المعاصرين مع أدلتهم ومناقشتها من قبل الأعضاء.

د ـ ولا تمنح العضوية الكاملة لأحد إلا إذا شهد بكفاءته على الأقل عشرة أعضاء كاملون من خمس جنسيات مختلفة، والجدير بالذكر أننا لا نريد أن تكون للهيئات الرسمية أي دور في تعيين الأعضاء أو الأعضاء المنتسبين.

هـ ـ ينبغي أن لا تنتهى المناقشة على قضية واحدة في أقل من ثلاث سنوات لتتجلى جميع النواحي المتعلقة بالموضوع ويأتي كل فقيه بما عنده من الآراء والأدلة.

و- لابد أن يكون كل واحد من الأعضاء حائزا على الصفات الآتية:

1 ـ أن يكون مسلما عدلا بالغا من العمر أربعين سنة فما فوقها، على أن يسمح لمن دون هذا السن أن يكون عضوا منتسبا.

2 ـ أن تكون خبرته في مجال تدريس الشريعة أو التأليف فيها أو الإفتاء فيها أو القضاء لمدة لا تقل عن خمس عشرة سنة.

3 ـ أن تكون له بحوث مطبوعة في مختلف مجالات الشريعة بحيث تمتاز بالأصالة والعمق وسداد الفكر.

4 ـ أن يكون معروفا في بلده بصلاحه وتقواه وأمانته العلمية ورفعه لواء الشريعة.

5 ـ أن تكون لديه معرفة ما سبقت الإشارة إليه من العلوم الثمانية كما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله في المستصفى.

ز ـ لابد أن يكون في كل مركز فرعى جماعة من الأعضاء المنتسبين من أهل العلم والثقافة العصرية وعلماء الشريعة المشهود لهم بالصلاح والتقوى، ليستفيد الأعضاء الكاملون من عملهم وتجاربهم وخبراتهم، وينبغي ألا يعين أحد عضوا منتسبا إلا إذا شهد بكفاءته ثلاثة أعضاء كاملين على الأقل. 

وبعد؛ فهذا ما أردت أن اقول في هذه المقالة الموجزة التي ارتجلتها ارتجالا. وأدعو الله تعالى أن يوفقنا جميعا بما فيه صلاحنا وخيرنا في دنيانا وأخرانا. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

االحواشي:

(1) الإمام الغزالي: المستصفى من علم الأصول، طبع المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، 1356هـ 1937م، مجلد ثان، ص 101.

(2) الإمام الشهرستاني: الملل والنحل.

(3) الإمام الغزالي، نفس المصدر ص 103.

(4)مصدر سابق ص 101-103

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين