فقه الاختلاف: الإمام الشافعي ويونس الصدفي أنموذجا

يُنقل في مواقع التواصُل الاجتماعي حادثةٌ منقولةٌ عن سيدنا الشافعيِّ وتلميذه النجيب يونس الصَّدفي، وهي:

(كان يونسُ بن عبدالأعلى أحدَ طلاب الإمام الشافعي رحمهم الله، واختلف يونس مع أستاذه الشافعي، فقام غاضبًا وترك الدرس ورجع لبيته، وفي الليل ذهب الإمام الشافعيُّ لبيت يونس، فقال له: يا يونس، تجمعنا مئاتُ المسائل وتُفرِّقنا مسألةٌ! يا يونس، لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات، فأحيانًا كسب القلوب أَولى من كسب المواقف، يا يونس، لا تهدم الجسور التي بنيتَها وعبرتها، فربما تحتاجها للعودة يومًا ما، اكره الخطأ دائمًا، ولا تكره المُخطئ، يا يونس، انتقد القول لكن احترم القائل؛ فإن مهمتنا أن نقضي على المرض، لا على المريض).

 هذه الحادثة لا سندَ لها وإن كان معناها صحيحًا، ولكنها لا تثبُت بهذه الصيغة عن سيدنا الشافعي رحمه الله، والمتأمِّل لعباراتها: (جسور.. اكره الخطأ.. لا تحاول الانتصار.. كسب القلوب.. إلخ)، يجدها لا تنسجم وبلاغته رضي الله عنه إذا ما قُورنت بأقواله المأثورة عنه، وهي أولى أن تكون كلمات عامية؛ فهي ليست مسبوكةً، والأصحُّ أن يُقال عنها: إنها من أقوال المعاصرين ممَّن يعملون في الدعوة إلى الله.

 ويونس الصدفي هو:

يونس بن عبدالأعلى بن ميسرة بن حَفْص بن حيَّان الإمام، شيخ الإسلام أبو موسى الصَّدفيُّ المِصْرِيُّ المقْرِئُ الحافظُ، وُلد سنة سبعينَ ومائةٍ في ذي الحِجَّة.

 حدَّث عن: سفيان بن عُيَيْنة، وأبِي عبدالله الشَّافعيِّ، وخَلْقٍ غيرهم.

حدَّث عنه: مسلمٌ والنَّسائِيُّ وابنُ ماجه، وأبو حاتمٍ وأبو زُرْعة، وبقيُّ بنُ مَخْلَدٍ، وابنُ خُزَيْمة وأبو بكر بن زيادٍ النَّيْسابوريُّ، وأبو عَوانة الإسْفَراييني، وخَلْقٌ كثيرٌ.

 تُوُفِّي غداةَ يوم الاثنين ثانِي ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين[1].

 ومدَحَه الإمام الشافعيُّ مع كونه من تلاميذه، كما نقل الطحاوي، فقال عنه:

قال الطحاوي: كان ذا عقلٍ، لقد حدثني عليُّ بن عمرو بن خالد: سمعت أبي يقول: قال الشافعي: يا أبا الحسن، انظر إلى هذا الباب الأول من أبواب المسجد الجامع، قال: فنظرت إليه، فقال: ما يدخل من هذا الباب أحدٌ أعقلُ من يونس بن عبدالأعلى[2].

 ومدَح يونسُ الصدفيُّ شيخَه وأستاذه الإمام الشافعيَّ بقوله:

قال أبو عبيد: ما رأيت أعقلَ من الشافعي، وكذا قال يونس بن عبدالأعلى، حتى إنه قال: لو جُمعت أمة لوسعهم عقلُه[3].

 وأصل الحادثة هو:

(قال يونس الصدفي: ما رأيتُ أعقلَ من الشافعيِّ، ناظرتُه يومًا في مسألةٍ، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة!)[4].

 وعلَّق على هذه الحادثةِ الإمام الذهبيُّ بقوله: هذا يدلُّ على كمال عقل هذا الإمام، وفقهِ نفسه؛ فما زال النُّظراء يختلفون[5].

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

----------

[1] يُنظر: سير أعلام النبلاء؛ ط الحديث (10/ 53).

[2] يُنظر: سير أعلام النبلاء؛ ط الحديث (10/ 53).

[3] يُنظر: "مناقب البيهقي" 2 / 185، 186، و"تاريخ ابن عساكر" 14 / 403 /2، و"توالي التأسيس" 58، و"معرفة السنن والآثار" 1 / 127، و"البداية والنهاية" 10 / 253، وسير أعلام النبلاء 10 / 15.

[4] سير أعلام النبلاء؛ ط الحديث (8 /240)، ويُنظر: تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (51/ 302).

[5] سير أعلام النبلاء؛ ط الحديث (8 /240)، ويُنظر: تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (51/ 302).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين