من مذكرات نازح

كلمة نازح تحمل بين حروفها كماً من الآلام والقهر والحنين، كلمة لا يعرف مهناها إلا من ذاقها وتجرع مرارتها، وتبقى حروفها تنتظر أمل العودة

لا ندري أي مستقبل ينتظرنا وماذا يخفي لنا القدر؟!

لا زلت أذكر حتى الآن يوم نزوحي من مدينتي، أذكر تلك اللحظات بأصغر تفاصيلها التي تنفض غبار الحنين عن قلبي بين الحين والآخر، كنت كلما وضعت شيئاً في الحقائب تقول لي أمي لا داعٍ له بضعة شهور وسنعود…….

ومنذ ذلك الحين خرجنا ولم نعد!!

أمي صادقة ولا تكذب قط لكن الجميع خذلنا وكذب علينا ،لا داع لأن أذكر تلك التفاصيل فهي حكاية أخرى تحتاج لوقت طويل ، دقائق النزوح طويلة جداً ولن أكلف نفسي العناء و أقوم بحسابها وهي كل يوم تزداد ، ربما أخطئ أيضاً في الحساب أنا لا أتقنه بجدارة …

لكل دقيقة من دقائق النزوح قصة ومعنى وحرقة قلب وغصة وحنيناً قاسياً وواقعاً مريراً وضيقاً خانقاً.

لكل دقيقةٍ من دقائق النزوح نبضة قلبٍ مأسورة ودمعة عين شاحبة محاطة بالهالات السوداء، لكل دقيقة كآبة لون مختلف وشكل جديد ويأس كبير وضياع أليم، في كل دقيقة أسمع أصوات كسرٍ ما في داخلي؛ حتى أدمنت الصوت فلم أعيره اهتمامي.

وفي كل هذه الدقائق أصبحت أعرف أغلب مدن وقرى الشمال السوري أكثر من مدينتي وأغلب شوارعها خطتها قدماي الباحثة عن المجهول

الغربة لا تنحصر فقط في مفهوم “أن تغادر وطنك إلى وطن آخر “

تجتاحك الغربة عندما تغادر المنزل الذي كبرت بين جدرانه ودفنت ذكرياتك في أعماقه، عندما تغادر الأهل والأصدقاء وتترك تلك المدينة التي ترعرعت تحت سمائها، نغادر محملين بحقائب فيها ما في خزائننا، ما في أدراجنا من ورق..

نحشر كتباً أحببناها ودفاتر فيها ذكرياتنا ورسائل كتبت لنا وأخرى كتبناها، نحشر وجوه من أحببنا وعيون من أحبونا، نظرة لعجوز قد لا نراها وقبلة على خد صغير سيكبر من بعدنا، وأخيراً دمعة على مدينة قد لا نراها.

نحمل تلك المدينة أثاثاً لغربتنا، ننسى عندما تضعنا المدينة عند بابها وتصدنا أمام قلبها دون أن تلقي نظرة على دموعنا التي حرقت وجهنا، ننسى أن نسألها من سيؤسسها من بعدنا!

في كل يوم قضيته بمدينتي كنت أتورط بذاكرتها أكثر والمصيبة أننا لا نشفى من ذاكرتنا، وإذا عدنا إليها ثانية نعود محملين بحقائب الحنين وحفنة أحلام فقط وإذا ما عدنا وباتت فكرة العودة شبه مستحيلة نبقى مقيدين بقيود الحنين.

في النزوح يجب أن تكون مستعداً حتى تتأقلم كل فترة في بيئة جديدة وأن تقوم بتغيير مكان نومك الذي اعتدت عليه وقد تبقى مستيقظاً طوال الليل في أول يوم لك بالمنزل الجديد تحدق بالسقف وألف فكرة تراودك، وأيضاً كلما اعتدت على مدرسة تجبرك الظروف لتنتقل إلى أخرى؛ هذا إن استطعت العثور على مدرسة في الوضع الراهن.! وفي النهاية يبقى اسمك “نازح”.

لكن هذه الغربة مختلفة بعض الشيء، إذا خرجت من منزلك ستشاهد وجوهاً من وطنك، أُناسٌ يتكلمون مثل لغتك حتى وإن كان هناك اختلاف في اللهجات المهم أنك ما زلت تتنفس تحت سماء وطنك وتعيش أحداث الثورة مع أبناء بلدك، قضيتنا واحدة وجرحنا واحد وعدونا واحد ومصيبتنا واحدة وألمنا واحد فلا شيء يفرقنا.

كل هذا كفيل حتى ترسم ابتسامة على وجهك، في النزوح ستلتقي بأشخاص يجعلونك تنسى كل الفقد والآلام.

ستتعرف على ثقافة المدن و القرى و تندمج بالحضارات ، سيكون لديك مخزون واسع عن جميع الأنماط من الناس و ماذا يحملون من أفكار، ربما تتفاجأ باختلاف كبير بين العادات والتقاليد ، النزوح سيعلمك دروساً عجزت عنها المدارس و الجامعات .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين