حرية الإنسان تكليفه، القضاء والقدر (2)

 

القضاء والقدر

هما راجعان إلى علمه تعالى وقدرته، فالقضاء في رأي حكماء الإسلام – وليس بلازم أن نوزع قلبك بين شعاب الخلاف ونسلك بك مسالك الاعتساف – هو عبارة عن وجود الأشياء على الوجه الأكمل في علمه تعالى على وجه كلي. 

والقدر: إيجاد تلك الأشياء في عالم الظهور على وجه تفصيلي يوافق القضاء السابق.

وهنا شبهة صعب حلها على كثير من الناس: قالوا :إن ما سبق في العلم الإلهي لابد منه، ويستحيل نقيضه، فإذاً الأشياء مرسومة مقرَّرة قبل أن يوجد الإنسان، فهو إذاً مقهور لا مختار. 

ومن الغريب أن الإمام فخفر الدين الرازي (وهو هو) كثيراً ما يذكر ذلك في إلزام المعتزلة بالجبر وإسقاط الاختيار، مع أن ذلك غلط واضح لا أدري كيف وقع فيه الإمام الرازي وغيره من الأعلام: ذلك أن العلم لا علاقة له بالجبر والاختيار، فإني إذا علمتُ بأيِّ وسيلة من وسائل العلم أنك تسافر غداً، وكان ذلك علماً حقاً، لم يكن له تدخُّل في سفرك الذي سيقع بمحض إرادتك واختيارك، والعلم ليس من صفات التأثير، وتخلف المعلوم أو عدم تخلفه ليس مبنياً على كون العلم مؤثراً، بل على كونه صحيحاً، أو غير صحيح. 

هذا من أظهر الظاهر وأوضح الواضح، فإن من الجليِّ أن العلم لا أثر له في المعلوم، وأن المعلوم يوجد بأسبابه وسلسلة علله لا بعلم العالم أو جهل الجاهل. 

والخلاصة : أن الله تعالى قبل أن يخلقك يعلم أنك ستكون مريداً مختاراً، لأنك إنسان لا جماد (بل الحيوان الأعجم له إرادة واختيار أيضاً)، ويعلم بالضرورة ما تختاره بمحض إرادتك وما ستصرف إليه عزمك من خير أو شر، وقد اقتضت حكمته سبحانه أن يهبك تلك الإرادة الحرة التي تصرفها كما تشاء كي يحقق لك الحرية التي اقتضت حكمته أن يمنحك إياها ، ثم يجازيك بعد ذلك على ما كان منك في يوم عصيب تؤدي فيه الحساب عن كل ما كسبت يداك، ولولا ذلك لم يكن هناك معنى للحرية والاختيار ولا للتكليف والثواب والعقاب، ولسنا ننكر أنه لو شاء لسلبك تلك الإرادة، ولو أراد لجعلك آلة صمَّاء لا إرادة لك ولا تكليف عليك، ولكنه سبحانه لم يفعل لأنه يريد أن يجعلك إنساناً، فأي جبر يقتضيه القضاء بعد ذلك ؟ ! وإن كان لابدَّ من حصول ما سبق به القضاء، ولا يتأتى تخلفه، ولكن ذلك مبنيٌّ على صحَّة العلم لا على تأثيره كما قلنا، وقد سأل الإمام علياً كرم الله وجهه شيخ بعد انصرافه من صفِّين فقال: أخبرني عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: (والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً، ولا علونا تلعة إلا بقضاء الله وقدره)، فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي، ما أرى لي من الأمر شيئاً، فقال له: (مَهْ أيها الشيخ! عظَّم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين). فقال الشيخ: فكيف ساقنا القضاء والقدر؟ قال: (ويحك! لعلك ظننت قضاء مجبراً وقدراً قاسراً، لوكان ذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والأمر والنهي، ولم تأت لائمة من الله لمذنب، ولا محْمَدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء، أولى بالذمِّ من المحسن!! تلك مقالة عبدة الأوثان، وجنود الشياطين، وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها، إن الله أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلَّف يسراً، لم يُعص مغلوباً، ولم يُطع مُستكرَهاً، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظنُّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار).

وقال الإمام الرضا: (إن الله هو المالك لما ملًّكهم، والقادر على ما أقدرهم، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً، وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه).

والخلاصة أن هنا غلطتين: 

الأولى: أن علم الله تعالى بالأشياء يوجبها بطريق الجبر لا بطريق الاختيار، ولا أدري كيف يفهمون ذلك مع أن العلم لم يتعلق بفعلك إلا على وجه الاختيار منك، فهو اذاً يؤكد الاختيار ولا يعارضه. 

والثانية: إخراج الإرادة الإنسانية من سلسلة الأسباب، وجعلها لغواً في البين: وقد اختصرنا لك الطريق وأهدينا إليك لُباب التحقيق. 

هذا: وهنا شيء آخر لابدَّ أن ننبه عليه تتميماً للمقام، وإزالة لما عسى أن يكون من شبه الأوهام، ذلك أن بعض الناس قد يُعطى من المواهب ما لا يعطاه غيره، ويحد من المعونة الإلهية ما لا يجده سواه، فلماذا؟؟

لنا عن ذلك جوابان: 

الأول: أرى ذلك يرجع إلى سر القضاء والقدر، أو نقول: إلى الحكمة الكبرى التي دبرت العالم ووضعت نظام الوجود، ولا نستطيع أن نصل إليها تماماً مهما بلغ علمنا واتسعت مداركنا؛ وفي قضية موسى صلى الله عليه وسلم مع العبد الصالح التي قصَّها الله تعالى علينا في سورة الكهف أكبر شاهد لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. 

الجواب الثاني: أن ذلك من باب الفضل، والاعتراض لا يكون على ترك الفضل، وإنما يكون على ترك العدل، وذلك غير موجود، بل هو محال في حقِّ الله تعالى، وقد أعطى كلاً من عباده ما يمكنهم من القيام بما كلَّفهم به حتى اذا عجزوا رفع عنهم التكليف، فمنح كل إنسان من المواهب ما يستطيع أن يفعل به ما طُلب منه، فهذا القدر مشترك بين الجميع، وأما تفضيل بعضهم على بعض فذلك راجع إلى فضله الذي يعطيه من يشاء ويمنحه من يريد، ولا اعتراض عليه في ذلك [مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ] {التوبة:91} ولو فتحنا هذا الباب لوجب ألا توجد هـذه المخلوقات، ولا تظهر تلك المبدعات. فقد كان للجاهل بناء على هذا أن يقول: لمَ جعلتني جاهلاً؟ وللناقص في أيِّ شيء، أن يقول: لمَ خلقتني ناقصاً؟ بل كان للحمار مثلاً أن يقول: لِمَ لمْ تخلقني حصاناً؟ وللحصان أن يقول: لمَ لمْ تخلقني إنساناً؟ والإنسان أن يقول: لِمَ لمْ تخلقني مَلَكاً؟ بل وللأرض بلسان حالها أن تقول: لِمَ لم تخلقني سماء؟ وللسماء أن تقول: لِمَ لم تخلقني عرشاً؟ الخ الخ ... فأنت ترى أن فتح هذا الباب يوجب أن ينسدَّ باب الخلق بالكلية [وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ] {المؤمنون:71} ، ولعل للمقام متمِّمات، ولعلنا نأتي عليها في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

وبعد هذا فلا يسعنا إلا أن نقول ما قال الله تعالى: [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا] {الإسراء:85} أو ما قال جار الله الزمخشري رحمه الله:

العلم للرحمن جل جلاله=وسواه في جهلاته يتقمقم (1)

ما للتراب وللعـلوم وإنما=يسعى ليعلم أنه لا يعلم

(1) يقال: تقمقم إذا ذهب في الماء وغمر به حتى غرق.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصد: مجله: نور الإسلام، المجلد الأول، ربيع الآخر 1349 - العدد 4 .

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين