حتى تكون ناجحاً - تقبَّل نفسك
حتى تكون ناجحاً:
 تقبَّلْ نفسك
بقلم: المربي محمد عادل فارس
 
كلإنسان يسعى إلى النجاح: الطالب والتاجر والصانع والابن والأب والأم والزوجان...
ومعظم الناس يحقِّقون نجاحاً على نحوٍ من الأنحاء. لكنَّ النجاح الذي يُعتدُّ به هو النجاح الذي يكون باهراً، أو الذي يؤدي إلى قطعٍ لمرحلة، أو تجاوزٍ لعقبة، أو انتصارٍ على تحدٍّ. وكلما كانت المرحلة حاسمة، والعقبة كأْداء، والتحدي كبيراً.. كان النجاح بتجاوز ذلك أكبر وأظهر.
لذلك لا نكاد نعير شأناً للنجاحات الصغيرة التي يحققها - أو يكاد - كلُّ فرد، كلَّ يوم. إنما نوجّه اهتمامنا للنجاحات ذات الشأن.
وفي عصر السباق المحموم، والعولمة وثورة المعلومات... يكاد الناجحون الكبار في أعمالهم يسحقون الآخرين، أو يسرقون ثرواتهم، أو يبتلعونهم... مما يؤكد أهمية النجاحات الباهرة في كلِّ ميدان من ميادين الحياة. وإذا كان إيمان المؤمن يمنعه - إذا نجح - أن يسحق الآخرين أو يسرقهم أو يبتلعهم، فإن نجاحه يجعل قدمه راسخة في الأرض، ويحفظه من أن يسحقه الآخرون أو يسرقوه أو يبتلعوه.
***
 
المفتاح الكبير للنجاح: ثقةٌ بالله تعالى، وتقبُّلٌ للنفس:
الثقة بالله تعالى تعني الإيمان العميق به سبحانه، والشعور بمعيّته، والاستعانة به، والتوكّل عليه، والعلم بأنه القادر على كل شيء، وأن بيده مقاليد السماوات والأرض...
والمؤمن يعلم أن معيّة الله لعبده تزيد كلما استغرق العبد في صفات العبودية الصادقة.
ولنقرأ بعض الآيات الكريمة التي نصّت على هذه المعيّة، ولنتحققْ بالصفات التي تضمّنتها، لنضعَ أقدامنا على طريق النجاح:
)إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين( [البقرة:153] (صفة الصبر).
)إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون([النحل:128] (صفتا التقوى والإحسان).
فضلاً عن الآيات التي نصّت على صفات أحباب الله تعالى. فمن أحبه الله كان معه. ومن هذه الآيات نجد أن الله سبحانه يحب المحسنين، التوابين، المتطهرين، المتقين، الصابرين، المتوكلين، المُقْسِطين.
فكلما تحقق العبد بهذه الصفات حالفه توفيق الله تعالى، وكان نصيبه من النجاح أكثر.
وكلما وثق العبد بربه وبمعيّته كانت استعانته به أوثق.
وغنيٌّ عن البيان أن الاستعانة بالله تعالى لا تعني إهمال الأسباب، بل توجب الأخذ بها.
 
***
 
أما تقبّل الذات فيعني أن يعرف الإنسان صفاتِ نفسه، ويكشف قدراته ومواهبه العقلية والنفسية والبدنية من غير غَمْطٍ لشيءٍ منها، ولا اعتدادٍ مبالَغٍ فيها، ثم الانطلاق من هذه المعرفة لتطوير هذه القدرات والمواهب، وحُسْن استثمارها وتوجيهها، ليبلغ أقصى ما يمكن من الوصول إليه في مدارج العطاء والنبوغ والإنجاز.
ونستطيع إبراز مجموعة من النقاط تشرح ما ذكرنا:
 
1. النجاح يعتمد على الجِدّ والدأب والمثابرة... أكثر مما يعتمد على الموهبة.
فالموهوب الذي لا يصقل موهبته، ولا يتابع عمله وبحثه بجد.. قلَّ أن يحقق نجاحاً حقيقياً. نعم قد تظهر له إشراقات وتألقات وومضات.. لكن هذا لا يكفي لبناء النجاح.
استعرض في ذهنك أسماء الناجحين في ميدان الفقه والنحو والعروض، والفيزياء والميكانيك والفلك، والحاسوب والمعلوماتية، بل في ميادين الرياضة والفنون.. تجد أنَّ معظمهم - إن لم يكونوا جميعاً - قد بذلوا جهوداً حثيثة في البحث والتدريب والتأهيل حتى وصلوا إلى قمة النجاح.
وهذا المعنى أشار إليه الشاعر بقوله:
لا تحسبنّ المجدَ تمراً أنت آكله
                           لن تبلغَ المجدَ حتى تلعق الصَّبِرا
 
2. قيمة النجاح تتناسب مع الجهد المبذول:
وهذه النقطة تكمّل التي سبقتها. فكلما بذلتَ جهداً أكبر كانت الحصيلة أجدى وأنجع، لا سيما إذا كان ما بَذَلْته في التأسيس. وقديماً قالوا: «من لم تكن له بداية مُحرقة، لم تكن له نهاية مشرقة». ومن كان في مراحل الشباب الأولى أكثر قراءة وتحصيلاً، ومزاحمة للعلماء بالرُّكب، وبذلاً للجهد في التدريب والتأهيل.. كان الأجدر بالنجاح في مستقبل أيامه:
وقلَّ مَن جَدَّ في أمرٍ يحاولُهُ
                   واستعمل الصَّبْر إلا فاز بالظَّفَرِ
 
3. الناجحون يستثمرون الفشل في التحوُّل إلى النجاح:
كثيراً ما تقوم بمحاولة لإنجاز عمل ما، لا سيما إذا كان هذا العمل ذا شأن، أو ذا طبيعة ابتكارية.. ثم تخفق في هذا العمل. حسناًَ لا تدعِ اليأس يدخُلُ إلى قلبك، إذ من طبيعة العمل البشري أن يترافق بغفلة أو ضعف أو قصور.. فلا ينجح. تعلّم من تجربتك هذه، واكتشف الخلل الذي أدى إلى الإخفاق، ثم أعِدِ المحاولة فلعلّك تنجح في المرة الثانية أو الثالثة.
لقد قرأنا في كتاب الله تعالى كشفاً لنقاط الضعف التي ظهرت في الصف الإسلامي في أثناء غزوات بدر وأُحُد والأحزاب وحُنَين وتبوك..
من ذلك قوله تعالى، في غزوة بدر: )وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُون( [الأنفال: 5 - 6].
وفي غزوة أُحد: )إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا..( [آل عمران: 155].
وفي غزوة الأحزاب: ).. وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا( [الأحزاب:10].
وفي حُنين: )وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ...( [التوبة: 25].
وفي تبوك: )وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِين( [التوبة: 75].
وما كان هذا الكشف إلا لحكمة. ومن الحِكَم التي نستشفّها: أن نستفيد من التجربة لندخل تجربة جديدة بخبرات نفسية وفكرية واجتماعية وتنظيمية.. أعمق وأكبر.
وحين نقرأ تاريخ المبتكرين والمستكشفين، نجد نظائر ذلك في حياتهم. لم يكونوا ييأسون لإخفاق تجربة، بل كانوا يعاودونها بعد أن استفادوا من دروسها.. (وهذا ما يسمّيه علماء التربية بالتغذية الراجعة).
 
4. اكتشف طاقاتك المذخورة.. ولا تبالغ في صفاتك:
 لا يكاد يوجد الإنسان الذي لا يصلح لشيء، كما لا يوجد الإنسان الذي يصلح لكلِّ شيء.
معظم الناس يملكون طاقات بدنية وعقلية ونفسية، زوّدهم الله بها في أصل خِلْقتهم، أو هيّأهم الله لها من خلال تفاعلهم مع بيئتهم ومجتمعهم. لكن الناس قد يغفلون عما يمتلكون من استعدادات وقدُرات، ويحسبون أنهم عاجزون عن الإنتاج والعطاء والإبداع. ولو أنهم استنبطوا مذخوراتهم وجرّبوا إمكاناتهم، لاكتشفوا الكثير مما يفيد.
وفي مقابل ذلك هناك أناس اكتشفوا بعض قُدُرات لهم، ولَحِظوا أنهم يمتلكونها حيث يفتقدها الكثير من الناس من حولهم فدخل نفوسَهم العُجب والغرور، وراحوا ينظرون إلى مَن حولهم نظراتِ كِبْرٍ واستعلاء، فخسروا أنفسهم، وكرِهَهُم الناس.
الناس يُعْجبون بالموهوب، لكن الموهوب إذا وقع في العُجْب والغرور، استغنى الناس عنه وعن موهبته، ولم يقبلوا تحمّل صَلَفِه انتظاراً لعطائه المتميز!
ولعل أهم ما يعصم الإنسان من الغرور ومن اليأس، ويمنحه القدرة على الصبر والتحمّل والمثابرة، معرفته بفَقره إلى الله تعالى، وحاجته إلى فضله سبحانه، وثقته به، وتوكُّله عليه، والتطلع إلى ثوابه.
5. وقد آن أن نتوِّج هذه النقاط ببيان المراد من «تقبّل النفس»:
لقد خلق الله تعالى الناس، وجعلهم متفاوتين في القدُرات والطاقات:
)وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْق( [النحل: 71].
 )انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض( [الإسراء: 21].
)وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا([الزخرف: 32].
والإنسان الناجح هو الذي يكتشف قُدُراته وطاقاته على حقيقتها، فلا يُغفل شيئاً منها، ولا يبالغ في شيءٍ منها، ويميِّز بعدئذ بين ما يصلح له من مجالات الحياة وما لا يصلح له: «اعملوا فكلٌّ ميسّر لما خُلق له» (متفقٌ عليه). وينمّي طاقاته بدأبٍ وصبر، ويوجِّهها توجيهاً حسَناً، ويتفاعل مع محيطه وبيئته تفاعلاً إيجابياً.
 
·        ولا بأس من بعض أمثلة:
بعض الناس ذوو بنْيةٍ جسديّةٍ ضعيفة، فلا أمل لهم في التفوّق في مجالات الرياضة البدنية وما يشبهها، وقصارى جهدهم في هذا المجال أن يحافظوا على صحّتهم، ويقوُّوا أجسامهم ويحفظوها من المرض والوهن. وهؤلاء أنفسهم قد يملكون طاقات ذهنية كبيرة، أو قُدُرات نفسية هائلة، أو مهارات يدوية لا تحتاج إلى قوة بدنية.. فعليهم اكتشاف ذلك وتنميته.
بل إن الفرد نفسه يكون في مرحلةٍ عُمُرية معيّنة مؤهلاً لإنجازاتٍ متميّزة، فإذا تجاوز تلك المرحلة ضعُفت مؤهلاته تلك، ونَمَت مؤهلات أخرى، فعليه التحول من مجال في الإنجازات إلى مجال آخر.
وفي ضوء هذه المفهومات نفهم حكمة الشاعر حين قال:
إذا لم تستطع شيئاًَ فدَعْه
                         وجاوِزْهُ إلى ما تستطيعُ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين