تجديد الفكر العربي الإسلامي  قراءة في فكر محمد كمال جعفر

إن الفكر والنظر لا حد له، فهو طواف، محلق تارة، وهابط تارة أخرى، محلل في موقف، مركب في آخر، وثمرة كل ما مر اتساع في آفاق المعرفة الإنسانية بالكون والإنسان وبمصدر وجودهما جل جلاله، وهذا يعني أن العقل البشري متيقظ، يراقب تقدم الفكر الإنساني فيقيم ويوجه.

والتقدم الفكري حصيلة للوثبات العقلية والروحية التي وثبها الذهن والفؤاد، لكنها لا تستوي بين أمة وأخرى، فقد تسجل وثبة فكرية كبرى لأمة ما في زمن معين، مع بقاء أمم غيرها دون هذه الوثبة لأجيال طويلة أو قصيرة تبعاً لدرجة الحيوية والإيجابية التي يتمتع بها موقف هؤلاء أو نظرة أولئك، وإذا كان الحال كذلك فالحضارات تنتفع بما تستورد، وتتبادل فيما بينها عبر التأثير والتأثر لكننا نرى أن إثبات ذلك لا يكون إلا بمستندات ووثائق، وليس بمجرد أدنى شبه.

وفي كلامنا عن قضية التجديد، لا بد من أن نحذر من إساءة فهم "التجديد" كما حصل لفريقين، أحدهما: متعصب ومتشدد ومتقوقع، وآخر متطرف تهوي به ريح التطرف إلى مكان سحيق غريب عن تراثه ومقومات ذاته.

فالفريق الأول تزعجه فكرة التجديد في شتى صورها، فيقاومها في كل مستوى، وكأن الحياة عنده صبت في قوالب جامدة، وعند التحليل النفسي لموقف هؤلاء يبدو لنا أنهم لا ينزعجون من التجديد حقيقة إلا لأن التجديد يتطلب جهداً وكفاحاً ليسوا على استعداد لبذله أو الخوض فيه، فأيسر ما لديهم وأكثر الأمور راحة أن يحرصوا على الموروث، وكأن أسلافهم قد أدوا عنهم ما كان من المفروض أن يؤدوه هم.

ولسوء الحظ أن سلاح هؤلاء الفتاك هو الدين نفسه، حيث يسلطونه على دعاة التجديد فلا ينتفعون بشيء من جهود المجددين ولو عادت بالنفع على المجموع، وأبسط حيلهم في جعل الدين سلاحاً وصف كل جديد بالبدعة، ومن حيلهم كذلك التوحيد بين الشخص والمبدأ، فإن عارضت شخصاً منهم عدك عارضت المبدأ الذي يدعي أنه يمثله، وخلط بين شخصه وبين المبدأ الذي يدين به، والخلط بين الأشخاص والمبادئ من أسوأ الأمور، وهي التي أثمرت في المسيحية صكوك الغفران، والاعتراف، ومحاكم التفتيش، وغيرها من معالم الخزي في تاريخ البشرية.

والإنصاف يدعونا للقول إن هذا الفريق لا يشكل أغلبية، ولا يتفق جميع أفراده في الدافع والغاية، فبعضهم ينطلق من إخلاص غير محروس بالوعي، فيخلطون ويعممون الأحكام دون روية، وبعضهم يعي كل شيء وهو يقظ لما حوله، ويقظته لمركزه ونفوذه الذي يتمتع به أكمل تمتع، لذلك يرى في التجديد تهديداً لمصلحته، أو مساساً بالمبدأ والدين الذي يمثله، إذ يسوي بينهما كما أشرنا قبل قليل.

أما الفريق المتطرف فيقتات على الفكر الجاهز المعد له بعقول وجهود الآخرين، وهو قلما يعرف تراثه، وبالتالي لا يحمل له أي تقدير، ولا يعنيه في قليل أو كثير، بل لو استطاع الاستغناء عن لغته وتبنى لغة أخرى لفعل، خروجاً من جلده وبني جلدته، وحباً بكل غريب وجديد.

ويرى هذا الفريق أن فكرة إحياء التراث، أو تجديد الفكر بعد إحياء التراث؛ عبثاً لا طائل منه، وجهل هذا الفريق بالتراث حجر عقبة في سبيل تقدير قيمته.

ولا شك أن كلا الفريقين –المتعصب المتقوقع، والمتطرف المتهور- يجانب الحق، ويجاوز الحكمة، فالمتعصب يبعد عن باله أن هناك فرقاً هائلا بين الإتيان بشرع جديد، والإتيان بفهم جديد، وليتهم أدركوا أن التجديد في الفهم لا في الشرع.

إن طبيعة الإسلام تسمح بنماء الفكر وتطوره نتيجة للاحتكاك بين أفراد المجتمع، وبين المجتمع نفسه والمجتمعات الأخرى، حيث يسمح الإسلام بتعدد مصادر المعرفة بحسب الموضوع المدروس، فمن كان له قلب حسب التعبير القرآني، أي كانت له بصيرة نفاذة يمكنه بالظفر بالمعرفة عن طريق الحدس أو الإلهام، وفي الطبيعة وجه القرآن لإدامة النظر في آياتها، والتأمل في مواطن الاتساق والإحكام فيها، ونفس الأمر بالنسبة للتاريخ، ولو لم توجد في الإسلام مبررات التفكير ومزاولته، لما تمكن فلاسفة الإسلام أن يجمعوا بينه وبين الفلسفة.

ولا بد لنا من التفريق بين الإصلاح الديني وبين تجديد الفكر الإسلامي وإن كان بينهما عموم وخصوص، ولنا أن نتذكر ما قام به الإمام الغزالي في القديم، وفي الحديث محاولات السيد جمال الدين الأفغاني، حيث تهدف دعوته لإيقاظ الوعي، وبعث العقلية المتحررة بالأمة، ومحمد عبده الذي سعى لتقديم التراث في ضوء العصر والظرف، وثمة محاولات إصلاحية أخرى تفند شبه الخصوم، وتبرز العناصر الثمينة في التراث الإسلامي كمحاولات العقاد وتوفيق الحكيم من بوابة الأدب، وقد تطلع الأدب يومها إلى ثورة فكرية كاملة.

وأما عرض التجديد الفكري عرضاً فلسفياً فنجده لدى الفيلسوف والشاعر المسلم محمد إقبال، حيث يعد كتابه في تجديد الفكر الديني في الإسلام وثيقة متضمنة تصور إقبال ومقترحاته للقضية.

ومما لاحظه إقبال أن التفكير الإسلامي اتجه اتجاهاً مبايناً للتفكير اليوناني، بالنسبة للمثل الأعلى، فمثل اليونان الأعلى تحكمه فكرة التناسب فشدتهم إلى الوجود المتناهي في الخارج بحدوده الواضحة، بينما هي في الفكر الإسلامي تحصيل السعادة بالوصول إلى اللامتناهي، ويستوحي إقبال فكرته من الآية {وأن إلى ربك المنتهى}، فالمنتهى الأخير يجب ألا يبحث في الأفلاك، ويربط إقبال بين التاريخ وبين المصطلح القرآني {أيام الله}، لينبه على أنه ثالث مصادر المعرفة، لذلك يؤكد على النظر في عواقب الأمم الخالية، والاعتبار بتجارب الناس في الماضي والحاضر، ويؤكد إقبال على وحدة الأصل الإنساني {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة}، ويرى أن التركيز على الحقيقة الأساسية المتصلة بحركة الحياة والكون كما وردت في القرآن الكريم، هيأت قدرة المسلم على النظر إلى التاريخ باعتباره حركة جمعية مستمرة بوصفه تطوراً في الزمان حقيقياً، وفكرة التغيير المستمر لا تعني تجاهل الثبات والدوام اللذان تتصف بهما المبادئ من حيث المثال، لا من حيث التعين والتحقق في صورها الجزئية في الواقع، ولذلك فالتغير لا يمتد للقيم الأصلية التي تجد منتهاها في الباري جل وعلا.

وبناء على ما مر، يرى إقبال أن التجديد يجب أن يتحقق فيه التوفيق بين مراتب الدوام والتغير، بما يستتبع من توافق في الفكر والسلوك، والنظر والعمل، فلا يقول المسلم أنه جدد فكره الإسلامي بتبنيه فكراً غير إسلامي، فهذا عين التبديد، ومن الاحتمالات التي وضعها إقبال حين طالب بإعادة النظر في التراث العقلي للمسلمين، أن يظهر غناء هذا التراث بحيث لا يحتاج أي إضافة، أو نكون نحن أضعف من وضع هذه الإضافة.

والتجديد الإسلامي في الفكر ينبغي أن ينزع القشور الجافة التي أدت للجمود، ويكشف عن الحقائق الأصلية كالحرية والاتحاد والمساواة وغيرها من المثل العليا.

ويبين إقبال أن الحقيقة التي يكشفها العقل المحض لا قدرة لها على إشعال جذوة الإيمان القوي، فذلك لا يفعله إلا الدين، فالدين أسبق إلى التجربة من العلم، وهما أي الدين والعلم يتحريان الوصول إلى اليقين.

ومما أشار له إقبال من مباينة الفلسفة اليونانية للروح القرآنية استشهاده بالاعتبار الحسي في القرآن، لذلك عاب على المعتزلة تصورهم أن الدين نسق من المعاني المنطقية العقائدية، متجاهلين أنه حقيقة حيوية، فلا يمكن للفكر أن يستقل تماماً عن الواقع المتحقق في عالم التجربة.

وخلاصة ما أراده إقبال توضيحه لفكرة دوام احتفاظ الإسلام ببذور التجديد، هذا مع تحفظات لنا على مواضع من معالجات إقبال بطبيعة الحال.

ومن محاولات معالجة قضية التجديد الفكري والفلسفي ما قام به الدكتور زكي نجيب محمود الذي يؤكد أن أبرز مشاكل حياتنا الثقافية الراهنة هي كيفية المواءمة بين الفكر الإنساني الحديث وبين تراثنا الأصيل، فلا يمكننا تجاهل الفكر الوافد تماماً، وإلا انفلتنا من عصرنا أو انفلت عصرنا منا، وتراثنا فيه ذاتنا، وبدونه تفلت عروبتنا أو نفلت منها.

ولعل أبرز حجج الإقناع بضرورة تجديد الفكر العربي الإسلامي لمن يتخذون صانعي التراث قدوات لهم، هي إبراز موقف الأقدمين، ولنا أن نتأمل محاولات الموائمة بين الوحي والعقل، أو بين الدين والفلسفة، فالأقدمون حين غزاهم الفكر الأجنبي تكيفوا مع مقتضيات الفكر في عصرهم وظهر نشاطهم الإيجابي وإن اختلفت نتائجهم، لكنهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي متجاهلين ما وفد من فكر وحضارة، ولم يتلاشوا في أمواج هذا المد الفكري الوافد، وإنما بحثوا عن نسق فكري يضم حقائق ما جاءهم من دين مع ما وفد عليهم من فكر، وحالنا اليوم كحال اسلافنا، فالعالم اليوم موزع بين فلسفات مختلفة حوى كل منها الغث والثمين، والضار والنافع، ولا يغني أي منها على حدة، فثمة من يدين لفلسفة تدين للعلم ولا تعبأ بالإنسان، وثمة من يتبنى فلسفة تكاد تؤله الإنسان، وفلسفة أخرى تهتم بالإنسان من حيث النظم، ويمكننا أن نساير الفلسفة المعتنية بالعلم ونضيف لها فلسفة الإنسان، ونهتم بالإنسان مع اعتباره خليفة للإله، ونضيف لمن اقتصر على العلاقات والنظم الاجتماعية الاهتمام بالفرد ومسؤوليته أمام ربه وضميره.

وخلاصة ما مر؛ محاولة ليحتوي النظام الفلسفي المقترح محاسن سائر النظم ويتجنب مساوئها، ويذكر الكاتب أن أهم ما يميز الذوق الفلسفي العربي قيامه على مبدأ الثنائية، أي الاختلاف في الرتبة في مثل الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المطلق والمتغير، الأزلي والحادث.

فمراعاة مبدأ الثنائية هذا يمكن أن يشكل نقطة انطلاق لنظرات فلسفية تتعلق بالإنسان والأخلاق والمعرفة، وهذا يوصلنا إلى صيغة نرتضيها في شتى الميادين، فبذلك تتم لنا نظرات عن الطبيعة والكون والإنسان والقيم، فالنظرة الثنائية تميز بين إله خالق وعالم مخلوق بشراً كان أو وغيره، ثم تميز في عالم المخلوق بين البشر وبقية الكائنات، لامتلاك البشر الإرادة الحرة التي توجب تحمل الأمانة والمسؤولية، وهذا ينقلنا إلى نظرية في الأخلاق تعارض تأسسها على المنفعة، بل تدعو لإقامتها على أساس الواجب، فهذه نظرة أخلاقية وليدة للنظرة الكونية التي قامت على مبدأ الثنائية.

ومن مميزات هذه النظرة الثنائية -بحسب المؤلف- أنها تمكن من سد الفجوات الموجودة في المذاهب الفلسفية السائدة في المحيط غير الإسلامي، حيث تعوزها النفثة الروحية، والرقة الإنسانية، وصون كرامة الإنسان، حيث تمكننا من الجمع بين العلم وكرامة الإنسان.

يرى الدكتور جعفر أن الوقفة الفكرية للأستاذ زكي نجيب محمد تسد الفوات الموجود في المذاهب الفلسفية السائدة في غير بلادنا، وتحقق الجمع بين التطور العلمي وكرامة الإنسان، وهذا ما أعيا الحضارة الأوربية، ولا بد من الإشارة أن الدكتور جعفر لا يوافق على بعض ما ذهب إليه الأستاذ زكي ويعقب عليه، لكنه ساق ما رأى أنها محاولة جيدة في تجديد الفكر الإسلامي، لكنه يرى أنها تشترك مع محاولة محمد إقبال في جزئيتها فهي لم تستفد من النظرة المتكاملة لميادين الفكر الإسلامي الأربعة (علم الكلام، أصول الفقه، التصوف، الفلسفة الإسلامية) فقد حصرت رؤية إقبال نظرتها في الميدان الصوفي الفلسفي، ورؤية زكي على نقيضها فهي عقلية تهاجم النزعة الصوفية. 

وبعد سوق تجربة الأستاذين إقبال وزكي، يؤكد محمد كمال جعفر أن التجديد الفكري ينبغي أن ينبثق من الإسلام، شرط أن يكون هذا الانبثاق نتيجة لاستعراض واستيعاب الفكر الإسلامي في ميادينه الأربعة، وفي ضوء القرآن والسنة الصحيحة، فسلامة النظم الفكرية تقاس بمقدار وفائها بالأغراض الجوهرية للحياة الإنسانية، وأخص خصائص هذه الحياة؛ معرفة الإنسان لمكانة وجوده، ومركزه من العالم، والهدف الذي وجد لأجله، والرسالة التي ينتظر منه أداؤها، والنهاية التي تنتظره، أي الأصل والكينونة والمصير، والأسباب التي دعت محمد كمال جعفر لدعوته لانبثاق التجديد في نسقنا الفكري والفلسفي من الإسلام، راجع للميزات في الإسلام نفسه، والتي منها:

أولاً: اتساع النظرة التي تشكل في مجموعها النظام الفلسفي المكتمل بجانبه الفيزيقي والميتافيزيقي، لأنه نظرة تستوعب المعرفة بالله وبالكون والإنسان، وكمثال لذلك لنعرض نظرة الإسلام للتاريخ ونقارنها بالأنساق الفكرية التي قامت على أساس نظرتها للتاريخ وتفسيرها الفلسفي لمساره، وسنقارن ذات النظرة مع الديانات الأخرى، غير أننا سنقتصر على نظرة وضعية وأخرى دينية في هذا السياق.

نظرة الماديين إلى التاريخ: 

ونقصد بوصف مادي وطبيعي هنا، كل مذهب يستبعد من التاريخ أو من حياة الأفراد والجماعات أي عنصر يجاوز الإنسان، أو يرتبط بمبدأ روحي أو إلهي، وبذلك يدخل المذهب الإنساني في نطاق هذا الوصف -مع علمنا بتفرعات المذاهب المادية والطبيعية والإنسانية-، فوقائع التاريخ عند هؤلاء تتم في عالم أرضي مغلق، وربما كان أوضح مثال للتفسير المادي للتاريخ هو التصور الماركسي أو الشيوعي، حيث يتضمن نقاطاً أساسية منها: أن الناس وحدهم صناع التاريخ الحقيقيون، ويقصد بالناس الشعوب ولا سيما الطبقة الكادحة، وأن الإنتاج المادي والوضع الاقتصادي أساس التطور الاجتماعي، وأن صنع الشعب للتاريخ ليس بمحض إرادة واختيار بل رهن للظروف وفي مقدمتها حالة الإنتاج، وأن تقدم البشرية المادية يعني دوراً أكبر للشعب في صنع التاريخ، وأن الحتمية التاريخية لا يمكن أن تتخلف.

ما سبق يعني أن التاريخ من ألفه إلى يائه يعتبر سجلاً لتفاعل الإنسان مع الطبيعة وواقعها الملموس، ولو أخذنا بهذا المبدأ فهذا يعني أن الأديان وأصحابها صوراً تعبيرية عن ظروف مادية، وبذلك نلاحظ أن هذه النظرة المقيدة بحدود المادة لا تشبع طموح الإنسان وشعوره بتساميه على العالم المحسوس، وتعجز عن تفسير المواهب بما لا يتجاوز حدود المادة.

نظرة اليهودية والمسيحية إلى التاريخ:

وضعت اليهودية أنموذجاً للتاريخ على يد شراحها يتلاءم مع أقلية تعد نفسها مختارة ومضطهدة بين شعوب الأرض، واستند الأنموذج لفكرتين الأولى تمييز بين التاريخ المقدس والتاريخ الدنيوي، والثانية الارتباط بالماضي والمستقبل لضمان قبول الفكرة من كل مضطهد، بالرغم من أن أصل الفكرة كان مقصوراً على اليهود فقط.

ويقتضي هذا النموذج التاريخي أن مجال التقديس محصور على حياة الشعب اليهودي المحاط بالعناية الإلهية، المبشر بعذاب أعدائه، الموعود بيسوع مخلص، والمنتظر لمجده، وأما تاريخ غيرهم فعادي لا قداسة فيه، ونفس هذه العناصر تبناها القديس أوغسطين في المسيحية من خلال مفهوم مدينة الله، والمسيحية تنظر للقرون قبل المسيح على أنها فترات تمهيد وإعداد لظهوره، وبظهوره تجسد الوجود الإلهي عن طريق الحلول، وهنا يدخل الإله في التاريخ، ثم تأتي فكرة الفداء لتبدأ فترات الوعد الإلهي الخاص بالخلاص النهائي للبشر.

فنظرة المسيحية للتاريخ تركز على حركته أو ديناميكيته التي تعتمد على سلطان الله، وتتجه لتحقيق غايتها عبر المجتمع الديني، وفكرة الحلول جعلت للتاريخ معنى، وتجعل ما فوق التاريخ داخل في التاريخ ذاته، لكن المعنى المسيحي للتاريخ يحصر الإنسان في دائرة الديانة المسيحية، فالتاريخ بدون المسيحية يفقد معناه تماماً.

نظرة الإسلام إلى التاريخ 

يرى الإسلام غاية من الخلق تتجلى بمعرفة الله وعبادته، وغاية للخلق في الإفصاح عن مكامن الصفات، والتعبير عن الطاقات والملكات والظفر بالنهاية بما يتلاءم مع الطاقات والصفات، وهذه غاية ثنائية ينظر لها فردياً وينظر لها جماعياً، ويرى الإسلام أن ثمة اساساً ثابتاً لمجموعة من القوانين التي يخضع لها التاريخ يمكن من خلالها تفسيره وربط العلة بالمعلول "سنة الله"، فدمار الأمم وانهيار الدول له تبرير موضوعي في القرآن، ونفس الأمر للفرد، فقارون وهامان وفرعون والمصلحون نماذج بشرية توضح قوانين وسنن إلهية، فالثبات التاريخي في الإسلام هو في القانون الإلهي وهو الذي يمنح التاريخ وحدته، وهو ما يمكن الباحث من فهم التاريخ وتعليل حوادثه، فالانتكاسة المادية يمكن دراسة أسبابه التاريخية وتعليل ذلك عقلياً وفوق كل ذلك القانون الإلهي أو السنة الإلهي، فللتاريخ معنى دون الحاجة للحلول والاتحاد، ونفس الأمر ينطبق على الانتعاش المادي والروحي، فثمة مقومات موضوعية وراءها خلفية من حكمة إلهية، والإنسان الذي يصنع تاريخه إنما يفعل ذلك باستمداده طاقاته وملكاته التي هي من صنع الله، فالجانب الإلهي غير مباشر، وهناك دور مباشر خفي لا يحسه إلا ذوو البصائر.

فكما للأمم أيام وليال، لله أيامه ولياليه التي يسفر فيها انتصار مبادئه وقوانينه تحقيقاً لوعده أو وعيده، ومصطلح أيام الله، وردت في الماضي والحاضر في نصوص القرآن، ونظراً لتخلل الأثر الإلهي في التاريخ ونظراً لحتمية القانون الإلهي نرى ابن خلدون يسمي كتابه العبر، فنظر الإسلام للتاريخ تحمل بذور الانتماء للتراث، والتنبؤ بالمستقبل في أقرب صور موضوعية للطاقة البشرية، ولا تغفل الحاضر.

ثانياً: تغذية النزعة التفاؤلية الواعية لدى الإنسان

فالنظم الفكرية التي اتخذت صفة الدين فيما بعد كالبوذية مثلاً، نظرتها للعالم في خصائص مثل التعاسة والحزن والامتلاء بالآلام والعبور والانتقال والخداع والخلو من الروح والمعنى، وسبب ذلك أن العالم عابر لا قرار له، فهو فيض مستمر للحوادث المتتابعة، أي أنه عابر زائل.

وهنا برز سؤال عن الألم والمعاناة والشقاء والتعاسة والسبل للخلاص من ذلك، والخلاصة أن التجهم والعبوس وقسوة الصورة القاتمة تخيم على الكون في نظرة البوذية، وهي لا تقل تشاؤمنا عن كثير من المذاهب الحديثة التي تجعل الحياة داء شفاؤه العدم.

بينما يرى الإسلام أن الحياة لو كانت نمطاً واحداً لما وجدت فرصة لاختبار معادن الناس واستخراج طاقاتهم، والمحن تصقل النفس الإنسانية وتستثير مقومات صمودها وبذلك تسترد ابتسامتها رغم المحن، والحياة مليئة بروعة الوفاء، وصور البطولة، وسحر النغم، وجمال القبة الزرقاء، فإغفال ذلك ليس نزيهاً.

وقصر فترة الحياة مدعاة لاغتنام كل ثانية بكل مفيد يطور الحياة، فهي نظرة تتسامى على اتجاهات الانغماس والإسفاف في النظر للحياة، ومن الواضح أن التشاؤم عائد لعدم الاعتقاد في إله مدبر يرعى خلقه.

وينبه الإسلام أن في المصائب أوجه خير خافية {لا تحسبوه شراً لكم، بل هو خير لكم}، بل ينبه أهل البلاء قبل نزوله ليوطنوا أنفسهم ويستعدوا له {ولنبلونكم بشيء من الخوف...وبشر الصابرين}

فالخير والشر في نظر الإسلام وسيلتي ابتلاء {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}، فالأصل أن لا تنال من الإنسان شدة، ولا يطغيه رخاء، فهو يسعى في ثقة دون بطر ولا كبر.

ثالثاً: يربط الإسلام بين العلم والفكر وبين الأخلاق، فربط العلم بالأخلاق صمام الأمان الذي يحفظ الحضارة الإنسانية، ويصون الكرامة البشرية، وللأسف فالعلم التجريبي اليوم لا تعنيه القيم ولا يهمه الإنسان، لذلك لا يدرك حقيقة الإنسان ومكانته.

رابعاً: تأصيل الذات وتمكنها في دنيا الحقيقة وربطها دائماً بالمبدأ الأعلى الذي هو حقيقة الحقائق

فلكل الناس اعتقاد حتى الملحد منهم حيث يعتقد فساد الاعتقاد، فهو اعتقاد سلبي، ومعلوم أن الأفكار حول الإله تتفاوت ضعة وسمواً في تاريخ البشر، ولذلك نرى ضرورة انبثاق التجديد من الإسلام لأن فكرة الألوهية تفوق ما سبقها وما تلاها من أفكار، فنحن نستبعد الأنماط البدائية لأنها انحرافات ضاربة في القدم بعكس من يراها الأصول الأولى لفكرة الألوهية، فالإنسان لم يخلق عبثاً، ولم يكن وجوده صدفة، بل له خالق يرعى خلقه.

وفي صفات الإله نجد أن الروح الدينية الناضجة في الفترة الكلاسيكية اليونانية، مع استبعادها الملامح الخيالية عن الآلهة؛ فقد احتفظت بصفات مثل التشخص والتفكير والشعور والحياة الروحية على النمط البشري، فالشبه بين الإله والإنسان أساس لقيام علاقة بينهما، ومع أرسطو تلاشت عناصر الإيجابية والتأثير الذي ينبغي أن يكون للإله، واختفت بذلك مبررات التقرب والتأسي بما يرسم من مبادئ أو يسن من قوانين، فأجل عمل للإله عند أرسطو هو التأمل لذلك جعل التأمل قمة السعادة لأن الإنسان يتشبه بالإله، وفي اليهودية والمسيحية اختلط المفهوم السماوي بإضافات متدرجة بعدت عن الأصل، فصفات يهوه تقريبا هي صفات اليهود، ومعضلة التثليث في المسيحية، مع تعميم الذنب والخطيئة، من أعظم التصورات الخاطئة، ولم تكن صفات الكمال المطلقة، مع التنزيه عن مشابهة الحوادث، إلا في تصور الإسلام. 

وفي ختام هذا المبحث يؤكد الدكتور جعفر على ضرورة تبادل العون بين المناهج المختلفة لطالب التجديد، وينبغي الوعي باستعمال كل منهج في جانبه فالمنهج التجريبي يصلح للتجارب الحسية، لكن لا ينبغي تعميمه لتناول موضوعات لا تتصل بالمعطيات الحسية ولا سيما المتصلة بالجانب الميتافيزيقي، فتبادل العون بين المناهج يعتبر عاملاً أساسياً لإثراء الحياة الفكرية.

وآخر ما يؤكد عليه الدكتور جعفر في هذا الباب ضرورة أن يوضع بالحسبان أن النظام الفلسفي الجديد ينبغي أن ينبع من صميم بيئتنا وفي إطار يدل على عمق إدراكنا لذواتنا وحقيقتنا الإنسانية، وهذا يقتضي تتبع العناصر الأصلية في تراثنا حول النموذج الإنساني واستكمالها أو تعديلها، ولا بد من مراعاة معالجة مشاكلنا الحقيقية، لا المشكلات المفتعلة البعيدة عن واقعنا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين