وقفة منهجية في ذكرى المولد الشريف (2-2)

إن تحرير نقطة الخلاف يختصر كثيراً من الجهد والوقت في هذه المسألة وفي غيرها، لكن المختلفين اعتادوا على خلط الأوراق، بما يعني توسيع دائرة الخلاف والابتعاد عن جوهر المشكلة، فتكون الحوارات كأنها فرصة لتبادل التهم، وتشويه الطرف المقابل، والتشويش على رأيه أكثر مما هي وسيلة للحل أو الإقناع، وهذا سبب رئيس في بقاء المسائل الخلافية على حالها، وبقاء المختلفين، كلّ في خندقه وتصوّراته الخاصّة به. 

هذه الطريقة الخاطئة تقود إلى خطأ آخر يزيد الطين بلّة.. والداء علّة، حيث يحاول كل طرف احتكار الحق المطلق، محاولاً أن ينقل رأيه من دائرة الاجتهاد إلى دائرة القطع، ومن ثمّ، فهو يتعجّب من مخالفيه.. كيف يعارضون القطعيّات، ويصادمون البديهيات! يقول لك المجيز مثلاً: «إني أتعجّب من الذي يحرّم الاحتفال بذكرى المولد الشريف، ثم يجيز الاحتفال بالعيد الوطني، ويقول مع أن علماء الأمة متفقون على أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد النهي، فأين النهي عن الاحتفال بالمولد؟ فيردّ عليه صاحبه بالأسلوب نفسه: «كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا المهاجرون ولا الأنصار، ولا التابعون وتابع التابعين؟ ثم يختم بعبارة: «لو كان خيراً لسبقونا إليه». 

كنت أعرض مقولة لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذه المسألة، من كتابه اقتضاء الصراط المستقيم: «فتعظيم المولد.. واتخاذه موسماً، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم، لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله». 

ويبيّن في عبارة أخرى، أنهم يثابون على «المحبة والاجتهاد لا على البدع»، والمعنى العلمي الدقيق لهذا الكلام أن ابن تيمية -رحمه الله- يرى الاحتفال بدعة، لكنه يتعامل مع المحتفلين كمجتهدين على قدر نواياهم واجتهاداتهم، وهذا غاية الإنصاف. 

لكن هذه العبارات لا تنقل اليوم في محافل الوعظ والتذكير، لذلك، صُدم بها كثير من القرّاء، حتى من أكثر الناس تضلّعاً في فكر ابن تيمية -رحمه الله-، فاضطربوا في فهمها وفي تأويلها، إضافة إلى أن هناك من ردّ على ابن تيمية، مستشهداً بالمقولة السائدة: «كل إنسان يؤخذ منه ويردّ، إلا رسول الله -عليه الصلاة والسلام-»، كما ردّوا على الإمام ابن حجر العسقلاني -شارح صحيح البخاري «عليهما رحمة الله»- مقولته المعروفة في المولد: «أصل عمل المولد بدعة، لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، لكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن، وتجÙ ب ضدها كان بدعة حسنة، وإلا فلا». 

نلاحظ هنا منهج العلماء الربانيين، أنه يقول رأيه بكل صدق وأمانة، دون أن يجامل أحداً، ثم يضع نفسه موضع المخالف، محاولاً أن يفهم سبب موقفه، مع الحرص الشديد على تحرير محل الخلاف بدقّة، من دون تشويه أو تهويل، على عكس ما نراه من بعض المتجادلين اليوم في هذه المسألة.. وفي غيرها، من محاولة تشويه موقف المخالف وتسقيطه، وكأن الفريقين في معركة إثبات وجود، وليس في محاورة علمية، ويقيناً أنهم بهذه المنهجية الخاطئة لن يصلوا إلى أية نتيجة، لا في هذه المسألة ولا في غيرها.

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين