أسباب محبة الله تعالى 

أسباب المحبة:

لماذا نحب الله تعالى؟ أو لماذا ينبغي أن نحبه؟ ونحن واجدون بعد التأمل الذي يجلي الضباب ويريح الغفلة أن الله تعالى أهل لكل حب، وأنه أولى بتعلق القلب من حب المرء لوالده وولده ونفسه التي بين جنبيه !

ونبدأ بأسرع دواعي المحبة وروداً على الذهن، وأعني به الإحساس الذي يستعبد الإنسان ويقيِّده بأواصر نفسية متينة نحو المحسن، ولا شك أن الله تبارك اسمه ولي النعم التي يخوض الناس فيها خوضاً، ويمرحون في بحبوحتها طولاً وعرضاً[وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ] {النحل:53}.

والنعم الإلهية تكتنف الوجود الإنساني من كل ناحية، إلا أن البشر يعاملون ربهم معاملة الولد المدلل العاق لأبيه، يضيق إذا حرم بعض رغائبه، ويتمادى به الضيق حتى ينسى المنن الجسام التي تُطوّق عنقه وتستبقي كيانه.

ولو أن الله تعالى يسارع إلى الإنسان بكل ما يهوى لهلك الإنسان.

إنني أشهد على ضوء تجاربي التي حفرتها الأيام من حياتي أن أنفس ما يعلي شأني أني وليد أمور كنت بها ضائقاً، أو أتت بعيداً عن تفكيري، وتقديري.

ولو سارت أحوالي وفق ما أهوى ما كنت إلا أحد الهمل، ولو وكلت إلى نفسى، ورغباتها المجابة لهلكت.

وما أصدق قول الله تعالى في كتابه:[ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:216} 

ولو عقل الإنسان لكان حبه لله تعالى سواء في المحن والمنح لأن تقدير الله سبحانه للإنسان أجدى عليه من تقديره لنفسه.

وتبقى بعد ذلك كله أصول النعم التي يحيا بها الإنسان ويقتعد بها مكانه في الوجود الكبير، وهو مكان جد خطير، قال تعالى: [اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ(32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34) ]. {إبراهيم}. 

وإسداء الجميل يورث الشكر، وهو شعور قد يطول وقد يقصر، ولكن تكرار الجميل على تراخي الأيام وتفاوت الأحوال يورث الحب، والحب عاطفة تلتصق بالشغاف، وتتشعب في نواحي السلوك كلها.

وتكرار الجميل لمن يعترف به ظاهر، بيد أن الإنسان كثيراً ما يستقبل النعم الجزيلة بإحساس يبدأ براقاً، ثم سرعان ما يبهت.

ومع ذلك فإن رب العالمين سبحانه لا يحبس فضله عندما يطلبه سائل الأمس الذي أخذ ونسى!!

وقد حفِلَ القرآن بصور شتى لطبيعة الإنسان في هذه المواقف، وبرز في هذه الصور كيف أن الله تعالى أهلٌ للحب كله، وأن الإنسان أهلٌ للوم كله.

وتأمل هذه الصور لذهول البشر مع ترادف العطاء، واستحقاق الشكر والثناء، والحب والولاء، قال تعالى: [وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا] {الإسراء:67}.

والإنسان يجأر طالبا من مولاه النجدة عندما تحصره الأزمات، وتأخذ بخناقه، ويشعر بأنه سيهلك في حومتها لا محالة.

فإذا أتته النجدة التي طلب، واسترد أنفاسه، عاد سيرته الأولى، ونأى عمن قربته منه الأزمات، واستأنف حياة الغفلة التي أراد الله تعالى إخراجه منها، بهذه المتاعب العارضة.

أجل، فالآلام في الأغلب ترد على المرء دواء لعلل كامنة فيه، ومعاناة مرارتها سبيل الشفاء لمن يحسن الاستفادة والتذكر.

ولئن كانت السراء غذاء للكيان الإنساني إن الضراء دواء لابدَّ من تناوله.

وفي حياتنا العادية نحتاج إلى أنواع الأدوية التي نحتاج كما أنواع الأغذية.

لهذه وظيفتها وموضعها، ولتلك وظيفتها وموضعها، وربما كانت الآفات التي تعترض القلب الإنساني وتعكر صلته بالله سبحانه أكثر وأحوج إلى المعالجة من العلل التي تنتاب البدن وتعكر صفوه.

إلا أن موقف الإنسان من ربه عندما يدخله في تجارب الألم غريب، إنه يثوب إلى الحق بسرعة، ويصرخ سائلاً العفو والرحمة، ممن يملك هذا وضده.

فإذا نفَّس عنه كربته خفت الصوت العالي ثم احتبس، ثم ذهل، ثم انقلب صوت كنود وكِبر!!

لماذا؟ هل أخذت أيها الإنسان ضماناً بانتهاء المتاعب إلى الأبد؟ هل اطمأننت إلى أنك لن تقع في الفنى مرة أخرى، [أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا(68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا(69) ]. {الإسراء}. 

وتمر بالبشر مآزق شتى، إذا استحكمت عليهم حلقاتها ناشدوا الله تعالى العفو والرحمة، وإذا احتوتهم سعة الحرية نسوا وجحدوا [قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ] {الأنعام:63-64}.

والواقع أن الناس أمام هذا الإفضال المتكرر صنفان: صنف غافل القلب غليظ الرين، تمر به الأفراح والأتراح دون وعي، وكأنه لم يدع الله تعالى إلى ضر مسه، بل يظن أن ما يمر به من بؤس ونعمى طبيعة الحياة ويقول: [قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ] {الأعراف:95}.

أي تلك عادة الدنيا، وحالة الزمان!!.

وهذا صنف كفور لا خير فيه ولا دين له...

وصنف آخر يتأمل في غزارة النعم التي تنهمر من المكثر الوهاب.

ويعرف حق صاحبها في أن تحفظ وترعى، فيطوي فؤاده على تقديرها وإعزاز مرسلها، ولا يزال هذا الشعور يشرح صدره كلما جدَّت منة ـ ومنن الله تعالى تتجدد ولا تفنى ـ فيكسبه هذا الشعور الموصول حب الله سبحانه، والرضا عنه والتعلق به.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين