الاجتهاد وأجره

روي في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حكمَ الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ).

فقه الحديث:

الاجتهاد في اللغة: بذل المجهود، واستفراغ الوسع، ثم صار هذا اللفظ في عرف العلماء مخصوصاً ببذل الفقيه وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة.

والأمور التي يجوز الاجتهاد فيها هي كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، فيخرج من ذلك ما لا مجال للاجتهاد فيه، مما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع، كوجوب الصلوات الخمس، والزكوات وما ماثل ذلك.

قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، فإن أصاب فله أجران، أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده.

قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم، فلا يحلُّ له الحكم، فإن حكم فلا أجر له، بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا، لأن إصابته اتفاقية، ليست صادرة عن أصل شرعيّ، فهو عاص في جميع أحكامه، سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك.

وقد جاء في الحديث في السنن: (القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، واثنان في النار، قاض عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه، فهو في النار، وقاض قضى على جهل فهو في النار).

وقد اختلف العلماء في أن كل مجتهد مصيب، أم المصيب واحد وهو من وافق الحكم الذي عند الله تعالى، والآخر مخطئ لا إثم عليه لعذره؟ والأصح عند الشافعي وأصحابه أن المصيب واحد، وقد احتجت الطائفتان بهذا الحديث.

وأما الأولون القائلون: (كل مجتهد مصيب) فقالوا: قد جعل للمجتهد أجر، فلولا إصابته لم يكن له أجر.

وأما الآخرون، فقالوا: سماه مخطئاً، ولو كان مصيباً لم يسمه مخطئاً، وأما الأجر فإنه حصل له على تعبه في الاجتهاد.

قال الأولون: إنما سمّاه مخطئاً، لأنه محمول على أن من أخطأ النص أو اجتهد فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد، كالمجمع عليه وغيره.

وهذا الاختلاف إنما هو في الاجتهاد في الفروع، فأما أصول التوحيد فالمصيب فيها واحد بإجماع من يعتد به.

وهنا مسألتان لابدَّ من التنبيه عليهما وهما:

أولاً: جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: جواز الاجتهاد للصحابة في عهده صلى الله عليه وسلم.

المسألة الأولى:

اختلف الأصوليون: هل يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم الحكم بالاجتهاد فيما لا نص فيه، أو لا يجوز؟

قال الحنفية: إنه عليه الصلاة والسلام مأمور إذا عرضت له حادثة أن ينتظر الوحي، إلى أن يخاف فوت الحادثة، ثم بالاجتهاد إذا لم يوح إليه.

ثم إذا أقر على اجتهاده كان ذلك دليلاً قاطعاً على صحته، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ، وبذلك لا تجوز مخالفته كما جازت مخالفة سائر المجتهدين.

وقد عدَّ الحنفية هذا الاجتهاد نوعاً من الوحي وسموه (الوحي الباطن).

وقال أكثر الأصوليين إنه عليه السلام مأمور بالاجتهاد مطلقاً، من غير تقييد بانتظار الوحي.

وقال الأشاعرة، وأكثر المعتزلة والمتكلمين: ليس له عليه الصلاة والسلام الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وقال بعضهم: له الاجتهاد في الحروب فقط.

ودليل المذهب المختار وقوع الاجتهاد منه عليه الصلاة والسلام في الأمور الشرعية وفي الحروب، أما في الحروب فيدل عليه قول تعالى:[عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ] {التوبة:43}. قال ذلك عتاباً له على إذنه لجماعة من المنافقين أن يتخلفوا عن غزوة تبوك، وهذا الإذن بالضرورة لم يكن عن نص، وإلا لم يكن محلاً للعتاب، بل كان عن اجتهاد.

فالحق أنه يجوز منه عليه السلام الخطأ فيما لا يرجع إلى التبليغ، إلا أنه لا يقر على ذلك الخطأ، بخلاف غيره من المجتهدين.

ومتى قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطئه، بل يبين الله تعالى له، ارتفع كل محظور.

المسألة الثانية:

اختلف الأصوليون في جواز اجتهاد غير الرسول صلى الله عليه وسلم في عصره، والمختار أن ذلك جائز سواء في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في غيبته، والدليل على ذلك وقوعه كما ورد في حديث معاذ رضي الله عنه، حيث اجتهاد فيما لم يجد فيه نصاً عن الله ورسوله.

قال شُعبة: حدثني أبو عون، عن الحارث بن عمرو، عن أناس من أصحاب معاذ، عن معاذ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال: (كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟) قال: أقضي بما في كتاب الله، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن لم يكن في كتاب الله؟) قال: فبسنة رسول الله، قال: (فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ )قال: أجتهد رأيي لا آلو، قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، ثم قال: (الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسول الله لما يرضي رسول الله ).

فهذا حديث قد اشتهر بين الأمة وتلقته بالقَبول، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره، ولم يعنفهم صلوات الله عليه.

مثال ذلك أنه عليه السلام أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخَّروها إلى بني قريظة، فصلوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ.

واجتهد سعد بن معاذ رضي الله عنه في بني قريظة، وحكم فيهم باجتهاده، فصوَّبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات).

فالصحابة رضي الله عنهم قد فتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبيَّنوا لهم سبيله، وهل يستريب عاقل في أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما قال: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد؟!

وليس الاجتهاد مباحاً لمن أراد، بل هو يستلزم كفاءة معلومة، تؤهِّل المجتهد لأداء ما يسعى إليه من الاستنباط والاستدلال.

فالمجتهد يشترط فيه أن يكون راشداً، عاقلاً عدلاً، متصفاً بالأخلاق الحسنة، وأن يكون عالماً بمدارك الأحكام، أي عارفاً بالأدلة الشرعية وطرق اتباعها، وما إلى ذلك من معرفة اللغة والتفسير وأسباب النزول ، ومعرفة حال الرواة وطرق الجرح والتعديل، والناسخ والمنسوخ.

وقد اشترط الشاطبي أيضاً: أن يتصف المجتهد بفهم مقاصد الشريعة على كمالها.

وهذه الشروط لابدَّ منها للمجتهد المطلق الذي يقصد إلى الاجتهاد في جميع مسائل الفقه، ولكنها لا تجب على غيره من المجتهدين.

فالمجتهد في مسألة من المسائل يكفي أن يكون عالماً بما يتعلق بها من الأدلة، وما تستتبعه من الأمور.

ثم إن المجتهدين درجات: المجتهد في الشرع، والمجتهد في المذهب، والمجتهد في المسائل، والمجتهد المقيد.

ولا ريب في أنه، بعد انضباط المذاهب المختلفة، أصبح مجال الاجتهاد أضيق مما كان عليه قبل ذلك.

هذا إلى أن سدَّ باب الاجتهاد مغاير لروح الشريعة وسنة التطور.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد الثالث، السنة الخامسة عشر، 1380-1961

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين