النبي الصابر صلى الله عليه وسلم

 

النعمة العظمى:

من أعظم نعم الله تعالى علينا أن بعث إلينا نبينا صلى الله عليه وسلم، فهدانا إلى الصراط المستقيم، وأخرجنا من الظلمات إلى النور.

{لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة. وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. 

وهو المعنى الذي لحظه بعض أصحاب الذوق العالي حين قال:

وممـا زادني شـرفاً وتيهاً=وكِدت بأخمصي أطأُ الثريا

دخولي تحت قولك: "يا عبدي"=وأن صيّرت أحمد لي نبيا

فلو حمدنا الله تعالى ليل نهار، ولو قضينا أعمارنا ساجدين له شكراً على هذه النعمة ما وفيناها حقها.

ولو صلينا على النبي صلى الله عليه وسلم ليل نهار، وفديناه بالمهج والأرواح لما وفيناه حقه علينا.

فقد كان الأسوة في الصبر والشكر، والبذل والكرم، والشجاعة والحلم، والرحمة والصدق، والأمانة والتواضع، وقيادة المجتمع في السلم والحرب وفي الموعظة والإرشاد والتعليم... ويكفي أن وصفه ربه سبحانه بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم}.

وكل صفة من صفاته صلى الله عليه وسلم، وكل صفة من صفاته جديرة بحديث مستقل، ونحن نفرد حديثنا لخُلق واحد من أخلاقه، ألا وهو الصبر.

- التوطئة للصبر الجميل:

على إثر نزول الوحي على نبينا صلى الله عليه وسلم، وعودته إلى خديجة زوجِه العظيمة... ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل فأخبره بما حصل له، فقال له ورقة (حسب حديث عائشة رضي الله عنها، في رواية البخاري): هذا الناموس (أي جبريل أو الوحي) الذي نزل على موسى. ليتني فيها جذعاً (شاباً قوياً)، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوَ مخرجيّ هم؟!" قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركْني يومك أنصرْك نصراً مؤزراً. ثم لم يلبث ورقة أن توفي، وفتر الوحي.

ثم نزلت الآيات الكريمة تترى، وهي تأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر.

الأمر بالصبر الجميل: 

ففي سورة المزمل: ?واصبر على ما يقولون واجهرهم هجراً جميلاً?.

وفي سورة المدثر: ?ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر?.

وفي سورة الأحقاف: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار. بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}.

وفي سورة يونس: {واتّبع ما يوحى إليك واصبرْ حتى يحكم الله}.

وفي سورة النحل: {واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تكُ في ضيق مما يمكرون}.

هذا عدا الآيات الكثيرة التي تأمر المسلمين عامة بالصبر، والرسول صلى الله عليه وسلم في مقدمتهم، وتبين مقام الصبر وثوابه، ومكانة الصابرين عند ربهم سبحانه.

كيف صبر صلى الله عليه وسلم:

من يقرأ كتاب الله تعالى يجد أن الصبر كالنسغ الذي يتخلل سلوك المسلم ومواقفه جميعاً، فهو بين أوامر لله تعالى يجب أن يصبر نفسه على القيام بها، ونواهٍ يجب أن يصبر نفسه على الامتناع عنها، ومصائب يجب أن يصبر على تحملها.

ويكفي أن نقرأ نصاً قرآنياً في أواخر سورة الفرقان، حيث تذكر الآيات الكريمة صفات عباد الرحمن، فإذا هم يمشون على الأرض هوناً، ويبيتون لربهم سجداً وقياماً، ويعتدلون في الإنفاق، فلا إسراف ولا تقتير، ويوحّدون ربهم، ويجتنبون قتل النفس التي حرّم الله، كما يجتنبون قول الزور، ويدعون الله...

والنتيجة المتوقعة لجزاء هؤلاء هي دخول الجنة، ولكن السبب الذي استحقوا به الجنة يختصره القرآن الكريم بكلمة واحدة: الصبر {أولئك يُجزَون الغرفة بما صبروا}، فكأن ما يجمع القرُبات المذكورة كلها هو الصبر.

ونلحظ مثل هذا المعنى كذلك في الآيات (19 – 24) من سورة الرعد، والآيات (7- 12) من سورة الدهر (الإنسان) بل نجد هذا المعنى مبثوثاً في آيات أخرى كثيرة.

فإذا نظرنا إلى هذا المعنى العام للصبر، وأردنا أن نتلمّس تحقُّق النبي صلى الله عليه وسلم به، فهذا يعني أن نتكلم عن سجاياه الكريمة كلها، فهو صابر في تبليغه الدعوة، واحتماله الأذى، وتعليمه أصحابه، ورعايته أزواجه وأهله، وتعامله مع أعدائه في السلم والحرب، وإقباله العجيب على الذكر والصلاة والصيام والقيام والإنفاق في سبيل الله... 

لكننا سنقتصر على ذكر نماذج مما يتبادر إلى الذهن مباشرة من معنى الصبر، فنورد هذه اللقطات من سيرته العطرة:

صبره صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين:

- روى البيهقي: ... لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيهٌ من سفهاء قريش فألقى عليه تراباً فرجع إلى بيته، فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي...

- وروى ابن أبي شيبة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة بن أبي مُعيط فجعل رداءه في عنقه، ثم جذبه حتى سقط لركبتيه، وتصايح الناس فظنوا أنه مقتول!.

- وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: طلع عليهم (أي على المشركين من قريش) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عند الكعبة فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأطافوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ (لما كان يَبْلُغُهم من عيب آلهتهم ودينهم) فيقول: نعم، أنا الذي أقول ذلك. فأخذ رجل بمَجْمَع ردائه، وقام أبو بكر رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! ثم انصرفوا عنه.

- وروى البخاري ومسلم: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدمَوه، وهو يمسح الدم عن وجهه، يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

- وعن أبي عبد الله خبّاب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفرُ له في الأرض فيُجعلُ فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضعُ على رأسه فيُجعلُ نصفين، ويُمشَطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصُدّه ذلك عن دينه، والله لَيُتِمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون". رواه البخاري. 

- وروى البزار والطبراني: كان سبعة من الملأ من قريش عند الحِجْر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما سجد أطال السجود. فقال أبو جهل: أيكم يأتي جَزور بني فلان فيأتينا بفَرْثِها فنكفئه على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فانطلق أشقاهم عقبة فأتى به فألقاه بين كتفيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد.

وقصته مع ثقيف عندما أوى إليهم في الطائف معروفة، ونذكر منها هذه الأسطر:

لما نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم أشد الأذى، بعد وفاة زوجه خديجة رضي الله عنها وعمه أبي طالب، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، لكن هؤلاء القوم لم يكونوا عند حسن الظن بهم. فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عَمَد إلى سادات ثقيف فجلس إليهم ودعاهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فردّوا عليه ردّاً منكراً، وفاجؤوه بما لم يكن يتوقع من الغلظة، فقام إليهم وهو يرجوهم أن يكتموا خبر مقدمه إليهم عن قريش، فلم يجيبوه إلى ذلك، وأغرَوا به سفهاءهم، فجعلوا يسبّونه ويرمونه بالحجارة، حتى إن رجليه لتدمِيان، ومعه زيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شُجَّ في رأسه شِجاجاً عدة!... 

فما أصعبها على النفس، نفس العزيز محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟! 

وقصة مقاطعة قريش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وحصارهم في شعب أبي طالب مدة ثلاث سنين، لا بيع ولا شراء، ولا زواج ولا تزويج، ولا طعام ولا شراب... حتى قرحت أشداقهم من أكل ورق الشجر، معروفة. والأخبار في صبره على أذى المشركين في نفسه وفي أصحابه كثيرة كثيرة!.

وصبره في القتال صلى الله عليه وسلم:

والحديث هنا أقرب إلى الحديث في شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وثباته، لذلك سنجتزئ بأسطر قليلة:

- وعن أبي إبراهيم عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: " يأيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم" متفق عليه.

- وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُفردَ يوم أحُد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، واستطاع المشركون أن يَخلصوا قريباً منه فرماه أحدهم بحجر كسر أنفه ورَباعيته وشجّه في وجهه..

وبقي صلى الله عليه وسلم صابراً يدير المعركة حتى رأى المشركون أن خسارتهم أكبر من ربحهم فتركوا.

وفي غزوة الخندق {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتُلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً}.

في هذه المعركة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أبشروا بفتح الله ونصره".

ويصبر على الجوع:

وقد تيسّر للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أن يكون من أكثر الناس أموالاً، لكنه آثر أن يتصدق بما يأتيه، ثم يعيش كما يعيش عامة أصحابه، بل فقراء أصحابه، فيشبع يوماً، ويجوع أياماً.

- روى أحمد أن فاطمة ناولت النبي صلى الله عليه وسلم كسرة من خبز الشعير، وقالت: قرص خبزته فلم تَطِبْ نفسي حتى أتيتك بهذا الكسرة، فقال لها: هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام.

- روى مسلم: ذكر عمر رضي الله عنه ما أصاب الناسُ من الدنيا فقال: لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقَل ما يملأ بطنه.

وفي مرضه صلى الله عليه وسلم:

- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعَك فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، قال: "أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم" قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: "أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاته، وحطّت عنه ذنوبه كما تحُطّ الشجرة ورقها". متفق عليه. [والوعك: مَغْث الحمّى، وقيل: الحمى].

اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وارزقنا اتّباعه في جميع الأقوال والأفعال والأحوال، واحشرنا تحت لوائه، ومتّعنا بشفاعته. اللهم آمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين