في الحب -2- 

 

وجمهور البشر لهم أشياء يحبونها ويتعلقون بها، وتضع على سيرتهم طابعها وتكمن وراء كثير من أقوالهم وأفعالهم.

وانعطاف الإنسان نحو شيء معين بدافع الغريزة أو العادة لا شيء فيه ما دام في إطار الحدود المشروعة.

ولكن لا يجوز أن يمتلك هذا الميل زمام الإنسان، ويتولى تصريفه، وينحى غيره من البواعث الأخرى.

أو بتعبير أوضح، من أحب الله تعالى لم يؤثر عليه شيئاً.

وعندما تتنافس المشاعر المختلفة في الاستيلاء على زمام المرء، وتحديد وجهته، فيجب أن تنهزم كل عاطفة أخرى، وأن يرجح جانب الله تعالى رجحاناً حاسماً.

ونحن في الحياة العادية نشهد ناسا كثيرين يتعلقون بمبادئ، وأشخاص وأشياء مختلفة، ويؤثر هذا التعلق في طريقة إنفاقهم لأوقاتهم، وبنائهم لحياتهم، وإصدارهم للأحكام الخاصة والعامة.

وعاطفة المرء نحو ربه تتحدد فيمتها في هذا المعترك النفسي البعيد المدى.

والمفروض أن حب المسلم لربه أربى من أي عاطفة أخرى عند أي إنسان آخر [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ] {البقرة:165}.

ويظهر ذلك جلياً عندما يصطدم في نفس المرء شعوران متناقضان، فقد تجيش في قلبه رغبة القعود في بيته مع ولده وأهله، وقد يهتف به نداء الواجب أن يدع ذلك كله، وينطلق إلى ميدان الجهاد مضحياً بنفسه ورغباته.

ومصير الإيمان مرتبط بنتيجة هذا الصراع العاطفي، فإن غلبت محبة الله تعالى، ورجحت كفة أمره فبها ونعمت، وإلا فالهزيمة فسق عن أمر الله [قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] {التوبة:24}.

والواقع أن محبة الإنسان للكثير من الأشياء هي التي تصده عن الكثير من الواجبات خصوصاً إذا غلبت الرغبة على فكره وغطت على بصيرته، فإنه يفقد اتزانه فيما يصدر من أحكام، وفيما يصدر عنه من أعمال، بل إنه قد يهبط إلى مراتب الطفولة وهو المسن لأن الطفل لا تسيطر على تصرفاته إلا شهواته...

وقديماً قيل: حبك الشيء يُعمي ويُصم.

وكم من رجل أرداه حبه للمال، أو للثناء، أو للراحة بين أهله وعشيرته إذ يقصر هذا الحب خطوه إلى معالي الأمور، ويُغريه بالقعود عن نصرة الحق بالنفس والمال.

ولذلك كانت نفس الإنسان ـ إذا آثر الحياة لها عدوه المخوف.

وكان ولده وزوجه أعداء له كذلك، يوم يؤثر الحياة إلى جوارهم عن تلبية النداء وإجابة داعي الله سبحانه، وهذا معنى قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ] {التغابن:14} ، والواجب أن يتلطف الإنسان مع أهله وعشيرته حين يتعلقون به، ويبغون بقاءه معهم، تلطف من يرق لضعفهم، ولكن لا يمنعه إعذاره لهم من توديعهم إلى حيث ينبغي أن ينطلق، ومن هنا ختمت الآية بقوله تعالى: [...وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {التغابن:14}.

ثم قال محذرا من الركون إلى القعود: [إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] {التغابن:15}.

ومقتضى حب الله عز وجل؟ أن يطيع الإنسان أمره؟ ويدع نهيه تعالى، ويحرص على رضاه سبحانه.

وكلما ربت هذه العاطفة فعل الإنسان الكثير لله تعالى دون أن يحس تعباً، لأن ما غمر فؤاده من شعور يُهوّن عليه المشاق.

ودعوى الحب مع التفريط في الحقوق، ومع الاستهانة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم دعوى منكرة، فإن من أحب الله تعالى تأسى برسوله، واستظل بلوائه، واقتفى في الدقيق والجليل أثره، قال تعالى:[قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {آل عمران:31}.

ولذلك قال الشاعر ـ في لوازم المحبة: 

تعصى الإله وأنت تظهر حبه!! = هذا لعمرى في الفعال بديع!

لو كان حبك صادقا لأطعته!= إن المحب لمن يحب مطيع.

وهذا صحيح، فإن المحب يُنفذ ما يطلبه منه حبيبه، بل هو يتشهى أمراً منه ليسارع إلى تأديته بشوق ورغبة...

إلا أن المرء قد تعرض له حالات مرضية يختل معها سلوكه، ولا تبلغ به هذه العاطفة مداها، كما تنقطع الدائرة الكهربائية في أحد المواضع، فلا يضاء المصباح لاحتباس التيار.

المعروف أن المرء يحب نفسه ويحرص على مصلحتها، ومع ذلك فقد يصاب بمرض يهدد حياته، ويأمره الطبيب بترك عادة له، حتى يستشفى مما ألم به فيعجز عن إجابة أمر الطبيب، ويقع فما حظر عليه!!

إنه لا يكره نفسه، ولكن شلل الإرادة تحت تأثير العادة أزله بعيداً عما يجب.

وبعض العصاة من المؤمنين لا يكرهون ربهم ولا أنفسهم، وإنما يقعون في المخالفات تحت تأثير هذه الأحوال المعتلة.

ولا ريب أنهم عند ارتكاب هذه المخالفات لا يكونون في صحو فكري كامل، إنهم أشبه بالمُسهد الذي جن عليه الليل، وتصارع عليه الكلال والأرق، فتفكيرهم أدنى إلى الأحلام الطائشة منه إلى المنطق المستحكم الحصيف!!

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين