تفسير سورة التكاثر

 

[أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ(1) حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ(2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ(5) لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ(6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ(7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ(8) ]. {التَّكاثر}. 

قوله عزَّ وجل: [أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ] أي: شغلتكم المفاخرة والمباهاة والمكاثرة بكثرة المال والعدد والمناقب عن طاعة الله ربكم، واشتغالكم بما ينجيكم من سخطه.

ومعلوم أن من اشتغل بشيء أعرض عن غيره، فينبغي للمؤمن العاقل أن يكون سعيه وشغله في تقديم الأهم، وهو ما يقربه من ربه عزَّ وجل، فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء تفاخر بأخسّ المراتب، والاشتغال به يمنع الإنسان من الاشتغال بتحصيل السعادة الأخروية التي هي سعادة الأبد.

ويدل على أنَّ المكاثرة والمفاخرة بالمال مذمومة، ما رُوي عن مطرِّف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه رضي الله عنه قال: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية: [أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ] فقال: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت؟!) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. 

وأخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميتَ ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه ماله (كالعبيد)، وأهله، وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله).

[حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ] أي: حتى متم ودفنتم في المقابر، فإنه يقال لمن مات: زار قبره، وزار رمسه، فيكون معنى الآية: ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت وأنتم على ذلك.

هذا، وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في اليهود، قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، فشغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً.

وقيل: نزلت في حيَّيين من قريش وهم بنو عبد مناف وبنو سهم بن عمرو، كان بينهم تفاخر فتعادّوا القادة والأشراف، فقال بنو عبد مناف: نحن أكثر سيداً ، وأعز عزيزاً، وأعظم نفراً، وأكثر عدداً، وقال بنو سهم مثل ذلك، فكثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعد موتانا وذوي الشرف منا، فعدوا الموتى حتى زاروا القبور فعدّوا منْ فيها، فقالوا: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان، فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا أصح وكأنه تعالى يعجِّبهم من أنفسهم ويقول: هبوا أنكم أكثر منهم عدداً فماذا ينفعكم؟

ثم ردَّ الله تعالى عليهم فقال: [كَلَّا] أي: ليس الأمر كما يتوهمه هؤلاء بالتكاثر والتفاخر.

وقيل المعنى: حقاً، فإن [كلا] تستعمل للردع والزجر، وتستعمل أيضاً بمعنى حقاً، وهي صالحة هنا للمعنين: [سَوْفَ تَعْلَمُونَ] وعيد لهم.

[ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ] كرره تأكيداً. والمعنى: سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم الموت، فهو وعيد بعد وعيد.

[كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ] أي: علماً يقينياً، وجواب لو محذوف، والمعنى: لو تعلمون علماً يقينياً لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر.

[لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ] اللام تدل على أنه جواب قسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد، وأن ما أوعدوا به لا يدخله شك ولا ريب. والمعنى: لابدَّ أن تروا الجحيم بأبصاركم بعد الموت.

[ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا] يعني مشاهدة بعد مشاهدة [عَيْنَ اليَقِينِ] وإنما كرر الرؤية لتأكيد الوعيد.

[ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] يعني أن كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه؛ لأنهم لم يشكروه حيث عبدوا غيره، ثم يعذبون على ذلك، وذلك أن الكفار لما ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى والاشتغال بشكره سألهم عن ذلك.

وقيل: إن هذا السؤال يعمُّ الكافر والمؤمن، وهو الأولى، لكن سؤال الكافر توبيخ وتقريع لأنه ترك شكر ما أنعم الله تعالى به عليه، والمؤمن يسأل سؤال تشريف وتكريم لأنه شكر ما أنعم الله تعالى به عليه وأطاع ربه، ويدل على ذلك ما روي عن الزبير رضي الله عنه قال: (لما نزلت [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] قال الزبير رضي الله عنه: يا رسول الله وأي نعيم نسأل عنه، وإنما هما الأسودان التمر والماء؟ قال: (أما إنه سيكون) أخرجه الترمذي وقال :حديث حسن.

واختلفوا في النعيم الذي يسأل العبد عنه، فروي عن ابن مسعود رضي الله عنه رفعه قال: ثُمَّ [لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] قال: الأمن والصحة. 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم، فيقال له: ألم نصحِّ لك جسمك ونروك من الماء البارد) أخرجه الترمذي.

وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: وأنا والذي نفسي بيده، لقد أخرجني الذي أخرجكما، فقوموا فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان – يريد أبا طلحة صاحب البيت – قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني، قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر، ورطب فقال: كلوا، وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوبَ، فذبح لهم شاة ، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق، فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة! أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم) وأخرجه الترمذي بأطول من هذا، وفيه: ظلٌّ بارد، ورطب طيب، وماء بارك.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل الله تعالى العبيد فيم استعملوها. والله أعلم بذلك منهم.

وقيل : يسأل عن الصحة والفراغ والمال.

وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ).

وقيل الذي يسأل عنه العبد هو: القدر الزائد على ما يحتاج إليه، فإنه لابدَّ لكل أحد من مطعم ومشرب وملبس ومسكن.

وقيل: يسأل عن تخفيف الشرائع وتيسير القرآن، ويسأل عن الإسلام، فإنه أكبر النعم.

وقيل: عما أنعم به عليكم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنقذكم من الضلال إلى الهدى، وأخرجكم من الظلمات إلى النور، وامتنَِّ به عليكم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الأزهر، المجلد الخامس عشر، محرم 1363 - الجزء 1 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين