نحو تجديد الفكر التربوي في العالم الإسلامي-2-

التجديد في المحتوي التربوي:

إن المفروض في المحتوي التربوي (البرنامج) أن يتكون من معرفة (علم) يزود به الطالب، وغرس أوضاع نفسية صحيحة في الطالب، وتعويده عادات نافعة، وتدريبه على مهارات عملية، وتشبعه بالعقيدة الإسلامية. كل هذا إلى جانب وافر العناية ببناء شخصيته الموحدة باعتباره عضواً مؤثراً في المجتمع يتمتع بالحرية والفعالية المسؤولة. 

إن البرامج التربوية التي نعرفها في العالم الإسلامي تُعنى بتقديم المعرفة للطالب على الأكثر، وذلك على شكل أقراص يبتلعها بحفظها وخزنها في الحافظة. ولا ندري إن كان مستعداً لهضمها أم لا.

ثم إن بعض البلاد الإسلامية ، لاسيما الثرية منها ، أخذت تعنى بالمسابقات والألعاب الرياضية، ولا نعتقد بأن العناية بأوضاع الطالب النفسية، وتعويده على التفكير الممعن، وإتقانه المهارات العلمية أو تعويده على الضبط الذاتي والأخلاق النبيلة... تحظى بما تستحق من العناية.

نظرة سريعة على نتاجنا التربوي في العالم الإسلامي ترينا بأن برامجنا الدراسية هي من الفرع النظري الأكاديمي على الأكثر. وأنها تخرّج عدداً من طلاب الوظائف الحكومية أكثر مما تحتاج البلاد إليهم أو تستطيع تشغيلهم، كل ذلك على حساب الأيدي العاملة المطلوبة في الزراعة والصناعة والتجارة والعمران. 

فتخطيط البرامج لتكوين المسلم الجديد تحتاج إلى إعادة نظر جذرية.

وها نحن فيما يلي نقترح المواد التالية التي يتكون منها البرنامج الأساسي العام للتربية الإسلامية الجديدة، والتي تشكل الحدّ الأدنى للمحتوى التربوي الذي نريده لكل مسلم بدون تفريق:

(1) تدريس الطالب مبادئ العقائد الإسلامية، وغرس الإيمان الصادق في نفسه عن طريق توجيه أفكاره إلى عجائب الخليقة، والترابط فيما بين عناصرها، وارتباط حياة الإنسان بها، وعن طريق الانتباه إلى النعم التي لا تحصى، والتي أنعم الله تعالى بها على الإنسان. 

تعليم الفرائض، وتعويد الطالب على أدائها مع التأكيد على ما فيها من فوائد جمَّة لخير الإنسان كفرد وكمجموع. ويستحسن أن يقوم الطلاب بأداء الفرائض مجتمعين في الصلاة ، ولاسيما صلاة الجمعة، وفي صيام شهر رمضان.

تحفيظ الطلاب ما تيسر من القرآن الكريم، ولاسيما ما يمس الأخلاق والواجبات التي يؤديها الفرد نحو أسرته وأمته الإنسانية جمعاء. ولا بد من تأكيد على أنّ درس الدّين يجب أن ينال أعظم قسط من الاهتمام في تكوين المسلم الجديد.

(2) تزويد الطالب بالوسائل التي بها يستطيع الحصول على المعرفة المستمرة، وبها يستطيع الاتصال بالمجتمع الإنساني قديمه وحديثه.

وهذه الوسائل هي القراءة والكتابة والحساب. فالمطلوب من كل طالب أن يتقن القدر الكافي من لغته ويمارسها كلاماً وقراءة وكتابة. ومن المنتظر أن يزود بالكتب النافعة والمجلات المثقفة والصحافة الراقية ؛ لينشأ على حب المطالعة.

(3) العناية الأكيدة بالتكوين الأخلاقي للطالب: فالأخلاق أهم أساس للنجاح في كل نواحي الحياة إن كانت صالحة. كما أنها من أهم أسباب الإخفاق إن كانت سيئة.

ونحن من المعتقدين بأن التخلف الأخلاقي هو وراء كل تخلف مُني به العالم الإسلامي، فالصدق في القول، والإخلاص في العمل، والمحافظة على المواعيد، والوفاء بالوعود والعهود، هي بعض الأخلاق والفضائل الأساسية التي يدعو إليها الدين الإسلامي الحنيف.

والأخلاق تغرس بالقدوة وبالموعظة الحسنة، وبتزويد الطالب بالمُثل العليا عن طريق درس سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة رضي الله عنهم وكرام الأمة، وسماع قصص عن حياتهم، ثم حفظ بعض الأشعار التي تمجِّد الفضائل كالوفاء والكرم والشجاعة والنجدة.

والأخلاق تغرس في ساحات اللعب، وفي المعاملات اليومية في السوق، وفي الحافلة، وفي البريد، وفي المصارف، وفي لقاءات الأصدقاء، وفي خدمات اجتماعية؛ في الحارة وفي القرية ،وفي مساعدة اليتامى والمسنِّين والمعوقين والمحتاجين الخ...

وفي التربية الأخلاقية مهمتّان:

أولاهما: غرس الأخلاق الفاضلة.

والثانية: قلع ما تأصل في الطالب من أخلاق أو عادات رديئة. وكلاهما يتطلب من المرّبي أن يبدأ بتربية نفسه أولاً.

(4) التربية للإنتاج: لابدَّ للمسلم الجديد من أن ينشأ على حبّ العمل اليدوي وتقديره وممارسة الإنتاج في الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو الخدمات الصحية والاجتماعية أو أن يتقن حرفة كالخياطة أو الحلاقة أو التجارة أو الحدادة أو البناء أو التصوير أو المحاسبة إلى غير ذلك. ومن المهم جداً أن ينشأ المسلم الجديد على استعمال الآلات الحاسبة، والقدرة على تقبل تشغيل الماكينات أو الأجهزة الكهربائية ويحسن إصلاحها.

نحن نحبذ الجمع بين الدراسة والعمل المنتج كأن تكون الدراسة مسائية والعمل المنتج في النهار أو أن تخصص أيام في الأسبوع للدراسة وأخرى للعمل المنتج أو بعض أشهر السنة لهذا والأخرى لذاك.

ولابدَّ لمجتمعنا الإسلامي من أن يُعيد النظر في تقديره للقيمة الثقافية للعمل اليدوي المنتج فإنه قد يثقف الإنسان (وبعض الفئات العملية من البشر خاصة) أفضل ممّا تفعله الكتب. وهذا هو حجر الزاوية في نظرنا في تجديد الفكر التربوي في العالم الإسلامي.

(5) التوعية بالانتماء وغرس الولاء للانتماء: لما كان الإنسان اجتماعياً ويعيش في بيئة اجتماعيّة وطبيعية فإنه ينتمي إلى جماعات عديدة وجهات مختلفة فهو ينتمي لعائلته ولمدرسته ولبلدته ولقطره (وطنه) ولأمته ولقارته وللإسلام، وفوق كل الانتماءات هو ينتمي إلى الله تعالى ، فهو عبد من عباده. 

والانتماءات هذه هي مصدر قوة للفرد وللجماعة فيما لو جرى تنظيمها في سلّم متصاعد وهي مصدر ضعف وانحلال فيما لو اصطدمت الانتماءات ببعضها، وقوي الولاء لجهة على حساب الجهة الأخرى. 

فبعض المسلمين اليوم يكرسون أكبر قسط من ولائهم لقطرهم، ويضعون القومية والإسلام على الهامش، وبعضهم الآخر يؤكد في ولائه على القومية (عربية كانت أم تركية أم أفغانية مثلاً ) والدين في نظره يوضع على الرف، وبعضهم الآخر ينتمي إلى الإسلام ويشجب من ينادي بالقومية.

فبرامج الدراسة لتكوين المسلم الجديد ينبغي أن تؤسس على توضيح سلّم الانتماءات وما يرافقها من ولاءات.

فالانتماء يبدأ بالذات، ثم يصعد إلى العائلة السعيدة، ثم إلى القبيلة (أو الحارة أو القرية) ثم القطر ، ثم القومية، ثم الإسلام. والانتماءات هذه مترابطة تشكل دوائر متحدة المركز، وكل ولاء أصغر يخضع للولاء الذي يليه ، والولاء لله تعالى يعلو على كل ولاء آخر. فلا تضارب ولا إشكال في كون الفرد ينتمي مثلاً إلى تدني العروبة فالإفريقية فالإسلام في نفس الوقت.

(6) لابدَّ للبرنامج التربوي للمسلم الجديد أن يتعهد بتقديم المعلومات العلمية، ويؤسس الأوضاع النفسية، ويغرس العادات المطلوبة لحفظ الصحة الشخصية والعامة، وتعريف الشاب المسلم بأهمية الغذاء الصحي والنظافة والنوم الكافي، وممارسة الرياضة البدينة في الهواء النقي مع إبداء أن فريضتي الصلاة بأوقاتها والصيام هما من أهم وأفضل أنواع الرياضية الجسدية إلى جانب فوائدهما الروحية والخلقية والاجتماعية.

ولابدَّ للمسلم الجديد أن يتعرف على مضار وأخطار الدخان والكحول والمخدرات والإباحية الجنسية فيعمل على تخليص المجتمع الإسلامي من هذه الشرور بممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(7) درس البيئة الطبيعية والعلوم المضبوطة: إنَّ درس البيئة الطبيعية من نبات وحيوان وجبال وأنهار وبحار ، والتأمل في السماء وما فيها من نجوم، كل هذه تحبِّب الطبيعة للإنسان، وتجعله يتأمل في عظمة الخالق، فعليه أن يتعلم أن يكون صديقاً للطبيعة فينعم بخيراتها ويعمل على تنميتها، ويقاوم إتلافها، ثم يتعرف المسلم الجديد على الدقة في القياس وعلى القوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء، وكيف أن هذه العلوم مهَّدت لنمو التقنيات الحديثة من آلات وماكينات ومخترعات. وكيف أن الإنسان استطاع بفضل العلوم أن ينشئ الحضارات وينمي الثروات. ويمكن ربط ذلك بالجغرافية الطبيعية والاقتصادية والسياسة وبالتاريخ.

المهم تنمية حبّ الاستطلاع، وحبّ الاكتشاف في نفس المسلم الحديث عن طريق المشاهدات والأسفار والتجارب العلمية في المختبر باستعمال أجهزة الميكروسكوب (المجهر) والتلسكوب ، والرجوع إلى الكتب الميسّرة الجذابة في كل هذه العلوم.

(8) ممارسة الفنون الجميلة والهوايات: من المهم جداً أن تشمل التربية وسائل التسلية والمتعة النافعة للطالب. فيتمتع المسلم الجديد بالفنون الجميلة من أدب (شعر وقصة ورواية) ومن موسيقي صوتية وآلية ورسم وتمثيل وتصوير وغير ذلك من الهوايات الصناعية كالتجارة أو الميكانيكا أو الزراعة كغرس الأزهار والأشجار أو جمع الطوابع إلى غير ذلك. 

كل هذه الوسائل للتسلية يتعاطاها المسلم الجديد في أوقات الفراغ بعد أن يكون قد أتم واجباته اليومية وأدى فرائضه الدينية.

ومن أحسن ما يثقف الإنسان المسلم في عطلته وأوقات فراغه الحياة الكشفية والعيش في الطبيعة وفي المخيمات، ثم العوم في البحر وركوب البحر والخيل وتسلق الجبال أو القيام بمسيرات على الأقدام.

(9) التفتح على العالم: نعيش في عصر ارتبطت فيه أجزاء الكرة الأرضية ببعضها بالمواصلات اللاسلكية والأقمار الاصطناعية والطائرات النفاثة. ولذلك وجب تنشئة المسلم الجديد على الاهتمام بشئون العالم والتعرف على أحوال الإنسان المعاصر وما توفره المعرفة من إمكانات تعاون أو مصادر خطر!

ويحسن بالمسلم الجديد أن يتعلم لغة أجنبية واحدة على الأقل تفيده في أسفاره وفي مطالعاته للشئون العالمية.

(10) خدمة العلم وخدمة العمل: يجدر بالعالم الإسلامي أن يكون لديه جيش دفاعي يحمي حدوده من الاعتداء الخارجي. ولذلك يحسن تدريب الشباب المسلم على الحياة العسكرية واستعمال السلاح الحديث كما تفعل سويسرة. وذلك لغرض الاستعداد الدائم للدفاع الشرعي وليس للاعتداء. والجيش مدرسة فعالة في تنمية الروح الوطنية مع ما تتطلبه من شجاعة وتضحية ونظام دقيق في الحياة.

وإلى جانب خدمة العلم تقوم خدمة العمل ، حيث يقوم الشباب بالخدمة المدنية في القرى وفي إعمار الأرض ومقاومة التصحّر أو حفر القنوات، إلى ما هنالك من أعمال تتطلب السواعد المفتولة والعزائم الصادقة.

ومن مزايا خدمتي العلم والعمل أنهما يوحِّدان أبناء الشعب، ويحققان المساواة. فلا تفريق بين الغني والفقير وابن هذه الديرة أو تلك. فالمنهج التربوي الإسلامي الجديد ينبغي أن يعنى بخدمتي العلم والعمل.

هذه في نظرنا هي أهم الأسس التي نقترح أن يوضع على ضوئها المحتوى التربوي الجديد لتكوين المسلم الجديد.

والتعليم الإسلامي ينبغي أن يشتمل على ثقافة إسلامية أساسية ضرورية لكل مسلم تستمر مدى الحياة، وتتجدد مع الأيام على الأسس التي بسطناها أعلاه، تليها ثقافة (دراسية) منوعة، وعلي درجات مختلفة لذوي الاختصاصات المهنية.

وفوق كل ما مّر تؤسس المعاهد الاختصاصية العليا لإعداد القادة ،وتكوين العلماء المجتهدين والأساتذة المتخصصين في الحقول العلمية والتقنيات المنوعة، وتربية الجميع على التحلي بالتقوى والعلم والحكمة والشجاعة.

تجديد الطريق والوسائل لتكوين المسلم الجديد:

(1) إن التربية التي نريدها لتكوين المسلم الجديد هي تربية حياة وأفعال أكثر منها تربية تحفيظ وأقوال. 

والتربية هذه تتطلب غرف دراسة ومكتبة واسعة وغنية، ومختبرات للعلوم، ومسجداً وقاعة اجتماع (للمحاضرات العامة واللقاءات والتمثيل والحفلات الموسيقية). وساحة ألعاب ومزرعة وحانوتاً وورشات صناعية. ويمكن تنظيم جدول الأعمال والدراسة بحيث تكون كل المرافق هذه مشغولة طوال الوقت تقريباً.

(2)الفروق الفردية وضرورة مراعاتها: تقوم المدرسة بالتعرف على كل طالب واكتشاف مواهبه الخاصة وقابلياته للسير في كل فرع من فروع المعرفة، وإقرار البرنامج المناسب لكل فرد فيسير بالسرعة التي تناسبه بدون تراخ في السّير ولا استعجال فيه فلا تفرض مادة على طالب لا يستطيع هضمها كما لا يجوز أن يرهق الطالب بالدروس أو يصيبه الملل.

(3) أفرادية التدريس: نقترح تشجيع التدريس الأفرادي ولاسيما دروس الرياضيات واللغات بحيث يسير كل طالب في كل درس من الدروس مع الزمرة التي هي من مستواه. فقد يكون الطالب متقدما في الرياضيات فهو يدرس مع زمرة متقدمة وهو مبتدئ في اللغة الأجنبية فهو يدرسها مع زمرة مبتدئة. ولذلك وجب النظر في تعديل نظام الأقسام (الصفوف) ثم إننا ننصح بإلغاء الامتحانات الموحَّدة في مواعيد مقررة ، والسماح لكل طالب أن يدرس الدرس حتى يتمّه. فلا رسوب ولا إعادة السَّنة. مع إبداء أن في هذا رجوعاً إلى تقاليدنا الإسلامية في التربية.

(4) الإكثار من الإراءة والمشاهدة والزيارات والجولات والقيام بالقياسات والتجارب العلمية ثم الدخول في النقاش والبحث في الكتب فهذا الأسلوب الفعَّال الحي يطبق في كل دروس العلوم الحياتية والطبيعية والاجتماعية. 

فطلاب تونس مثلا ً يزورون القيروان وفي زيارتهم هذه يشاهدون المعالم التاريخية والحضاريّة والتطورات العمرانية فيبدؤون بالبحث في كتب التاريخ والجغرافية ، ويطلعون على ما يتوفر من خرائط وتقارير ، فيكلفون بإعداد بحث عن القيروان ترافقه رسوم وصور.

(5) يشجع الطلاب على البحث المستقل في المكتبة وفي المختبر وورشة العمل وعلى استعمال الوسائل الميكانيكية مع ممارسة فكها وإعادة تركيبها وإصلاحها عند الاقتضاء.

تنظم فرص للعمل التعاوني في البحث العلمي وفي المعمل والحقل.

(6) يشجع الطلاب على الابتكار والإبداع في الفنون الجميلة وفي الهوايات الميكانيكية. كما يشجعون على العمل الدؤوب لتحقيق السمّو والارتقاء ويكافأ الطالب الممتاز.

(7) تشجيع التنظيمات الطلابية والعمل في لجان أدبية أو فنية أو علمية أو اجتماعية.

(8) تشجيع الحياة الديمقراطية المقترنة بالمسؤولية والنظام المحكم فلا يسمح بالتراخي أو التهاون.

(9) يسود جوٌّ من الأدب والاحترام المتبادل بين الطلاب والهيئة التدريسية، ويؤكد على تقوية روح الولاء للمدرسة.

(10) تؤسس علاقات تعاونية صميمة بين المدرسة والبيئة ولاسيما مع أولياء الطلاب.

وأخيراً نقول: هذه آراء تمثل اجتهادنا في تجديد الفكر التربوي في العالم الإسلامي هي معروضة للنقاش مع الترحيب بكل نقد أو اقتراح أو تصحيح. والله الهادي للصواب.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. 

المصدر: مجلة المسلم المعاصر : ربيع الآخر، جمادى الأولى وجمادى الآخرة 1405 - العدد 42 

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين